أنا حلقة غريبة

"الروح"، "الوعي الذاتي"، "الأنا"، "الذات الديكارتية"، "الضوء الداخلي"... أسماء مختلفة في ظاهرها، لكنها في حقيقتها تدور حول شيء واحد، هذا الشيء الغريب الموجود في داخل كل منا، تلك النظرة الداخلية التي نختبر العالم من خلالها.
لكن ما هو هذا الشيء؟ ما ماهيته؟ ومن أين يأتي؟
كان الجواب السائد لكل هذه الأسئلة يُعرَف بالثنائية، ثنائية الروح والجسد، التي تقول إن الوعي أمر لامادي، لأن المادة خامدة لا يمكن أن ينشأ عنها كائن حي متحرك، ولا يمكن تحريكها إلا إن سبّب الحركة كائن واعٍ، ولهذا كان الكثير من القدماء يعتقدون بأن الشمس والقمر والكواكب لها أرواح، لأنها قادرة على الحركة بذاتها دون كائن آخر يحرّكها. ولكن مع اكتشاف قوانين الحركة الفيزيائية وتراكم المعارف العلمية، أخذت دائرة الأرواح هذه تصغر فتصغر، فاكتشفنا أن الكواكب ليست ذات أرواح، وأن حركاتها ما هي إلا نواتج لقوانين الفيزياء، وأن الكثير من الكائنات القادرة على الحركة كالكائنات أحادية الخلية، حركتها ناتجة بشكل كامل عن سلسلة من التفاعلات الكيميائية بشكل لا يترك مجالاً للروح. لكن هذا لم ينفِ تماماً وجود الروح، فربما الروح ليست المسؤولة المباشرة عن الحركة، وإنما عن التفكير وحل المشاكل واتخاذ القرارات. ولكن التطور الكبير في علم الحوسبة أدى أيضاً إلى تضييق هذا المجال أكثر فأكثر، وأصبح لدينا برامج حوسبية قادرة على القيام بالعديد من العمليات العقلية المعقدة التي كنا نظنها حصراً على الإنسان، وما زالت هذه البرامج في تعقيد متزايد.
فهنا أصبح من الضروري السؤال، هل ما زال هناك مجال للروح؟ بالطبع! فهناك المشاعر، الحب والحزن والفرح والغضب. وهناك أيضاً ما هو أعمق، هناك الأنا، حتى لو كنت فارغاً من كل المشاعر وكل الأفكار، حتى لو لم أكن قادراً على تحريك أي من أطرافي، سيظل هناك هذا الأنا، هذا الضوء في الداخل، وهذا الضوء لن يستطيع العلم أبداً تفسيره...

ولكن العالم الأمريكي دوغلاس هوفستاتر Douglas Hofstadter لا يتفق أبداً معك عزيزي القارئ، ويعتقد أن لديه تفسيراً جيداً لهذا الضوء الداخلي، للأنت. أنت حلقة غريبة! أو بشكل أدق: أنت نظام ترميز قادر على ترميز نفسه....
 

في كتابه، أنا حلقة غريبة I Am a Strange Loop، يشرح هوفستاتر مفهومه عن الوعي، انطلاقاً من "أنظمة الترميز" symbolic systems، حيث يخبرنا أن أدمغتنا تعمل بشكل رئيسي كأنظمة ترميز، فرؤية أحدنا لتفاحة مثلاً ينتج عنها تفعيل رموز معينة في الدماغ، (تفاحة، فاكهة، طعام، أحمر، كروية، لذيذة، آيفون...)، وهذه الرموز تتجسد عن طريق تشابكات معينة بين العصبونات، وتفعيلها قد يؤدي إلى تفعيل رموز أخرى، تفعّل رموزاً أخرى، وهكذا، حتى ينتج في النهاية قيام الكائن الحيّ بحركة تؤدي إلى التقاط التفاحة وأكلها.
 
هذه الأنظمة الترميزية موجودة في كل الكائنات الحية ذوات الأجهزة العصبية، وتتدرج في تعقيدها من كائن لآخر، فالبعوضة مثلاً، نظامها الترميزي محدود جداً لدرجة أن هوفستاتر يرى أنه لا وجود لـ"ضوء داخلي" داخلها، وأنها مجرد آلة غير واعية يمكنك سحقها بيدك دون أدنى شعور بالذنب. في المقابل، فإن هذا النظام الترميزي معقد أكثر في الكائنات العليا، وخصوصاً في الثديات، حيث يبلغ درجة من التعقيد تسمح للكائن بإنشاء ترميز عن نفسه هو (جائع، غاضب، سعيد، متعب...)، وما يتعلق به (ذيلي، بطني، صديقي، عدوي...)، وختاماً يصبح لديه القدرة على بناء ترميزات فوق الترميزات (أفكاري، رغباتي، مشاعري، أنا)، وهنا ينشأ الوعي.
 
يناقش الكاتب بعد ذلك عبر فصول عديدة ما معنى أن يرمّز النظام الترميزي لنفسه، ويضرب العديد من الأمثلة التوضيحية أهمها وأشهرها هو العمل الذي قام به العبقري الرياضي كورت غورديل Kurt Gödel، الذي أخذ النظام الرياضي الذي أنشأه الفيلسوف الشهير بيرتراند رسل Bertrand Russel، وقام باستخدامه في ترميز نفسه وإثبات حقائق عن هذا النظام الرياضي نفسه، منها أنه غير مكتمل incomplete. ويرى هوفستاتر أن هناك العديد من التشابهات بين أدمغتنا ووعينا، وبين ما قام به غورديل في عمله هذا.

أخيراً، يناقش هوفستاتر المعنى الجديد للـ"روح" في هذا السياق، ويوضح كيف أن هذا التفسير ينتج عنه أن الكائنات لها درجات مختلفة من "الروح"، بناء على غنى النظام الترميزي الذي تحمله ودقته في الترميز لنفسه وللأمور من حوله، وأن "أكبر الأرواح" موجودة في الكائنات القادرة على التعاطف مع غيرها، لأنك لن تستطيع التعاطف مع الآخرين إلا عندما تستطيع إنشاء ترميز دقيق لنظامهم الترميزي ذاته داخل نظامك الترميزي أنت، أو بمعنى آخر، أن تشعر بمشاعرهم، وهذا يتطلب "روحاً كبيرة جداً".

الكتاب برأيي ممتاز، وهو تجديد لكتابه القديم الذي كتبه في 1979 تحت عنوان "غورديل إيسكر وباخ، عقدة ذهبية أبدية Godel Escher Bach: an Eternal Golden Braid"، ولا يمكنني الحكم بعد إن كان الكاتب قد نجح في تقديم تفسير مادي كافٍ لمفهوم الوعي، ولكنه حتماً خطوة مهمة في هذا الطريق، وهو حتماً كتاب يستحق وقت أي شخص مهتم بمفهوم الوعي.

Comments

Popular Posts