وهو أرحم الراحمين؟

 يوجد في علم الكلام الإسلامي مفهوم الرحمة العامة والخاصة، فالرحمة العامة هي التي يشمل بها الله كل المخلوقات في الدنيا، من أكل وشرب وصحة وغيرها، أما الرحمة الخاصة فلا تشمل إلا المؤمنين يوم القيامة، بمغفرة ذنوبهم وقبول توباتهم وإدخالهم الجنة.
هذا المفهوم له ما يدعمه في القرآن والأحاديث، حيث يقترن لفظ الرحمة في كثير من الآيات بالاستغفار والتوبة، مثل قوله في أماكن متعددة ((والله غفور رحيم))، أو ((وهو التواب الرحيم)). بينما مفهوم الرحمة الدنيوية فيمثل له بمثل ((ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور))، أو ((وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته))، إلخ.



ولكن حقيقة، هناك أربعة أنواع للرحمة ذكرت في القرآن، لا نوعان فقط:
1- الرحمة كمغفرة للذنوب (الرحمة الخاصة المذكورة أعلاه)
2- الرحمة الدنيوية (الرحمة العامة المذكورة أعلاه)
3- الرحمة المتمثلة بالإدخال إلى الجنة أو التجنيب من النار، مثل قوله ((وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون))، وقوله ((وهذا كتاب مبارك أنزلناه فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون)) وقوله ((وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون))، وهي مختلفة عن الرحمة الأولى لسبب سأذكره لاحقاً
4- الرحمة المتمثلة بالهداية، وإرسال الرسل، كقوله ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين))، أو ((ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة))، وقوله ((ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً))، إلخ

إذاً، فلنتفكر قليلاً في أنواع الرحمة هذه، ولنرى هل يتفق هذا المفهوم مع وصف الإله نفسه في مواضع متعددة بأنه ((أرحم الراحمين))؟ أو مع ما وُصِف به في الحديث بأنه أرحم من الأم بولدها؟:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: "قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قُلْنَا: لَا، وَاللهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»" (البخاري 5999)

برأيي، فإن الرحمة المتمثلة بمغفرة الذنوب جميلة جداً، بغض النظر عن أن كثيرأ مما يوصف بالذنوب هو شيء لا بد أن يغض النظر عنه أي رحيم، ناهيك عن أرحم الراحمين، فالكثير من ذنوبنا اليومية كالاستمناء والكذب الخفيف والنظرات العابرة وأكل لحم الخنزير وغيرها لا يجب أن تعد ذنوباً نحتاج رحمة عليها. ولكن لا ندري ما المهم عند الإله وما غير المهم، لذا فلنتشكره على هذه الرحمة. لكن أنواع الرحمة الثلاث الأخرى، تتناقض تماماً مع مبدأ أرحم الراحمين، فأرحم الراحمين هذا يعتبر أن الحالة الطبيعية للعالم الذي نعيش فيه هو العذاب، وبهذا فإن أي ما نجده من أكل وشرب وصحة وسعادة، ما هو إلا رحمة. والحالة الطبيعية في الآخرة أيضاً، هي دخول النار، أما دخول الجنة والنجاة من النار، فهو أيضاً رحمة وفضل تمنن عليه، وليس مكافأة تستحقها لعملك الجهيد وعبادتك وتقاك. وهدايته لك وإرساله رسله إليك هو أيضاً تفضل ورحمة، فإيمانك إذاً ليس إلا بفضل منه ورحمة، ولا فضل لك في هذا، فالحالة الطبيعية هي الكفر، إلا من تفضل الله عليه ورحمه.
إذاً، فإننا نرى أن أرحم الراحمين قد خلق عالماً الطبيعي فيه هو العذاب الدنيوي، والضلالة والكفر، والنار الأبدية، إلا برحمة منه. فهل يعد هذا فعلاً أرحم الراحمين؟
إن الأم التي يفترض أن الله أرحم بعباده منها بولدها، تقوم بكل ما عليها لجعل حياة ابنها الدنيوية أفضل حياة، وتفتخر به عندما ينجز ويصنع بدلاً من أن تدعي أن كل إنجازه فضل منها، ثم إذا عقّها وقطع رحمها حافظت هي على إحسانها معه وتجاهلت عقوقه. فكيف يكون أرحم الراحمين المدّعى هذا أرحم منها؟

ختاماً، لا بد أن أتطرق إلى موضوع فرعي، وهو ما يقولون بأن وجود النار ضروري لتحقيق العدل، فكثيراً ما يسألون: "هل ترضى أن يدخل من قتل وسرق واغتصب الجنة؟"، والجواب أني لا أرتضيه، لكن إله الإسلام يرتضيه، فقد قال ((إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء))، كما قال ((قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً)). إذاً، فالنار ليس هدفها العدل بين الناس، وإنما عقاب الكفار قبل كل شيء...


Comments

Popular Posts