مراجعة كتاب "نسيج الواقع" لديفيد دويتش - الجزء 8: ما هي الرياضيات؟

هذا المنشور هو الثامن في سلسلة مقالات أراجع فيها أفكار الفيلسوف والعالم الفيزيائي ديفيد دويتش، في كتابه "نسيج الواقع" The Fabric of Reality، سيحتوي المنشور على ملخص لأفكاره، تتخللها تعليقات مني. كل المنشورات ستكون تحت تاغ "نسيج الواقع"، لتسهيل إيجادها

---

 يبدأ دويتش هذا الفصل بقوله: "نسيج الواقع الذي تحدثت عنه حتى الآن هو نسيج الواقع الفيزيائي. مع هذا، فقد ذكرت العديد من الكائنات التي لا توجد في أي مكان من هذا العالم، بل هي تجريدات، كالأرقام والمجموعات اللانهائية. بل حتى إن قوانين الفيزياء ذاتها ليست كائنات فيزيائية مثل الصخور والكواكب... هل من وجود حقيقي للكائنات اللافيزيائية؟ هل هي جزء من نسيج الواقع؟ أيها مجرد صفّ كلام بأسلوب مناسب للتعبير عن الواقع الفيزيائي العادي؟ أيها مجرد نواتج من حضاراتنا؟ وأيها لا يمكن تفسيره إلا عن طريق إضفاء وجود حقيقي مستقل لها؟ الكائنات من هذا النوع لا بد أن تكون جزءاً من نسيج الواقع، وإذاً لا بد أن نفهمها لنلبي بحثنا في هذا الكتاب عن فهم كل ما هو مفهوم"


إذاً، وفقاً لدويتش، بعض الأمور المجردة هي ليست أكثر من مفاهيم تبسيطية، ولكن البعض الآخر له وجود موضوعي. غير فيزيائي، ولكن غير وهمي أيضاً. من هذه الكائنات، الأعداد الطبيعية، 1 و 2 و3... فبالنسبة لدويتش، هذه الأعداد لها وجود موضوعي، ولكن. لماذا؟

أولاً، الأسلوب المتعارف عليه في كتابة الأعداد ليس جزءاً من الواقع، بل هو مجرد ناتج من نواتج الحضارة، فنحن نكتب الأعداد اليوم من الصفر إلى التسعة، ثم نعود إلى الصفر ونزيد واحداً قربها لنعبر عن العشرة، وهكذا. لكن هذا لم يكن صحيحاً دائماً، فالرومانيون كتبوا الأعداد بأسلوب مختلف تماماً، كما أن الحواسيب التي نستعملها اليوم تكتب الأعداد باستخدام رقمين فقط، الصفر والواحد. لكنها كلها تعبيرات مختلفة عن المفهوم الجذري نفسه، وهو الأعداد الطبيعية.

ثانياً، هذه الأعداد نقوم بالتعبير عنها أيضاً باستخدام مسلمات رياضية، والمسلمات هي تعريفات رياضية نقوم "بالتسليم بها" من دون برهنتها. كقولنا أن الصفر هو أصغر عدد طبيعي. هذه المسلمات "نخترعها" لتوصيف ما نراه في الطبيعة من توالي الأعداد، لكن ليس عندنا أي ضمانة أن هذه المسلمات صحيحة، وأنها لن تقودنا يوماً إلى تناقض ما، أو أننا لن نجد الأعداد تتصرف بأسلوب مختلف في الطبيعة. فمثلاً، مسلمات الهندسة الإقليدية اخترعت لتوصيف الفضاء الذي نعيش فيه، حتى اكتشفنا يوماً أن هذا الفضاء مختلف عن واقع هذه الهندسة، فهو منحنٍ غير مستوٍ، وفيه الخطان المتوازيان يلتقيان. إذاً، هذه المسلمات أيضاً يمكن مساءلتها "هل أنت فعلاً تمثيل حقيقي للواقع أم لا"؟ 

ثالثاً، ما نقوم ببرهنته عن هذه الأعداد أيضاً قد لا يكون جزءاً من الحقيقة، لأننا نبرهنه انطلاقاً من المسلمات التي قد لا تكون صحيحة. ولكن حتى لو كانت مسلماتنا صحيحة، فالبرهان بحد ذاته قد يكون خاطئاً، وقد حصل هذا بالفعل مرات عديدة، حيث برهن رياضيون نتائج معينة، ببرهان بدا للجميع أنه صحيح واضح، إلى أن أتى رياضيون آخرون فأثبتوا أن أسلوب البرهنة هذا كله غير قائم، وأنه يقود إلى تناقضات. مما أعاد كل "المبرهنات" السابقة إلى مجرد "تخمينات". هذه المعضلة دفعت العالم الرياضي ديفيد هيلبرت David Hilbert إلى دعوة رياضيي العالم إلى إيجاد مجموعة من أساليب البرهنة تكون كاملة، يمكن الوصول منها إلى كل الحقائق الرياضية، ومتسقة ذاتياً، لا يمكن أن تقودنا إلى أي تناقضات. وطبعاً، لا بد لها أن تقوم ببرهنة صحة ذاتها، لأنها هي المجموعة الكاملة التي لا يوجد براهين خارجها. لكن للأسف، هذا المشروع الهلبرتي باء بفشل ذريع عندما أثبت العالم الشاب كرت غوديل Kurt Godel أنه من المستحيل إيجاد مجموعة براهين تتصف بهذه الصفات. لا يمكن لمجموعة براهين أن تكون شاملة لكل شيء، ولا يمكنها أيضاً أن تقوم ببرهنة نفسها.

إذاً، فإن الطريقة التي نكتب بها الأعداد هي ليست أكثر من وسيلة لتمثيلها، ومسلماتنا عن هذه الأعداد قد تكون خاطئة وغير ممثلة للحقيقة، وبراهيننا التي نثبت بها صحة نظرياتنا أيضاً قد تكون خاطئة حتى لو انطلقت من مسلمات صحيحة. فما الحقيقي والموضوعي إذاً؟ الحقيقي هو ما نحاول تمثيله باستخدام هذه النظريات والمسلمات. هذه المفاهيم كلها وضعت لتمثل حقيقة ما، أن المقادير الفيزيائية المستقلة تبدو وكأنها تظهر توالياً عددياً، فإذا وضعت قطة مع قطة أخرى، وجدت العدد ذاته الذي تجده إذا وضعت كرة مع أخرى. هذا التوالي الرياضي هو أمر حقيقي واقعي، وقانون كوني، أما تمثيلنا له باستخدام أعداد ومسلمات وغيرها، هو لا يعدو عن كونه نظرية علمية تجريبية، نسقطها ونأخذ بغيرها عندما نجد أنها غير عامة بشكل كافٍ أو غير قادرة على تمثيل الحالة.

من المهم جداً إذاً أن نفهم إذاً أن مقولة "الرياضيات قطعية، أما العلم ظنّي" هي خاطئة تماماً. نعم، العلاقة بين المسلمات ونتائجها هي علاقة قطعية، لكن التسليم بهذه المسلمات مبني على الظن والتجريب، والتسليم بصحة قواعد الاستنباط التي نستخدمها لبرهنة النتائج من المسلمات هو ظني تجريبي أيضاً.

مصادر إضافية:

* كتاب "نسيج الواقع" لديفيد دويتش، الفصل العاشر

* مبرهنات عدم الاكتمال لغودل https://www.youtube.com/watch?v=HZYEJdqH90A

Comments

Popular Posts