مراجعة كتاب "بين القصرين" لنجيب محفوظ

مؤخراً، عرض الكاتب الأمريكي دان هارمون قواعده في كتابة القصص، حيث ينتقل البطل عبر مراحل معينة حتى يصل إلى تغيير مبتغى في نهاية القصة. المشكلة، برأيي، أن هذا هو سبب سخف معظم الأفلام الأمريكية...

القصة الناجحة ليست "فورمولا" كيميائية، ولا خوارزمية برمجية يتبعها الكاتب ليصل إلى قصة جيدة. بل هي اتصال عاطفي يقوم بين الكاتب والقارئ، تقوده الشخصيات والأحداث.


وهذا هو إبداع نجيب محفوظ، صاحب الثلاثية الشهيرة، وقد أنهيت لتوي أولى أجزائها بعينين مغرقتين بالدمع، فشخصيات القصة ليست "أبطالاً" تمر بتحديات فتتعلم منها وتخرج منتصرة، بل هي بشر، بشر حية تنبض وتحس وتفعل وتخطئ، وتسوغ لنفسها خطأها، وتمضي في هذه الحياة وفق فلسفتها الخاصة، فنمضي معها متابعين لأحداثها ولنتائج هذه الفلسفة، ونحكم بأنفسنا صحتها أو خطأها، نعم، على القارئ الاختيار هل يتفق مع شخصية في فلسفتها وأفعالها أم يخطئها، وما على الكاتب إلا أن يحرك هذه الشخصيات وفق هذه الفلسفات الشخصية، دون أدنى درجة من الحكم. فكأنك تحس أن محفوظ غير موجود ألبتة في الصورة، وأن الشخصيات تتحرك وتفكر وتقرر لوحدها.

إذاً، فإن كنت ترتقب قصة تتبع قواعد الكتابة التقليدية، من بداية وتصاعد يصل إلى الذروة لينتهي بنهاية طنانة، فالكتاب ليس لك، بل هو كتاب لتعيش معه من دون أدنى توقعات حول توجه سير القصة، هو كتاب للشعور العاطفي، لا للإنجاز الحماسي. وهذا ما عانيته معه، فهو كما قلت ليس من نوع الكتب الذي يهضم في جلسة واحدة، بل قد أخذ مني جلسات عديدة على حوالي الشهرين حتى أنهيته، وقد شكل هذا صراعاً داخلياً بالنسبة لي، فعلى الرغم من استمتاعي بكل دقيقة من هذه الجلسات، إلا أني جبلت بطبعي على حب الختم والإنجاز، ولما كان هذا الكتاب يتعارض كل التعارض مع هذه العقلية، فقد شكّل لي تدريباً قاسياً ورائعاً في الآن ذاته، على مقاومة الرغبة الإنجازية، والاستمتاع باللحظة الحالية مهما طالت.

بالمختصر، هو كتاب رائع لتلقيم شعورك بوجبات قصيرة عميقة على فترات طويلة.

Comments

Popular Posts