وهم التخصص

كثيراً ما يهاجَم المفكرون والكاتبون بعبارة "اتركوا الأمر للمتخصصين"، ويكثر هذا خصوصاً في المواضيع التي يحتدم فيها الخلاف، كالدين، ونظرية التطور، وفيروس الكورونا، وغيرها.

ومع أني أوافق أنه من السيء أن يقوم كل من هب ودب بنشر آرائه في مواضيع معينة من دون أدنى فكرة، إلا أني أرى أن البشر لا ينقسمون إلى "متخصص" و"غير متخصص"، بل ينقسمون إلى:

• جاهل: وهو الذي لا يدري شيئاً في الموضوع، ربما عن قلة اهتمام أو عن أسباب أخرى، فلهذا أن يبدي رأيه كما يشاء، فقلّ أن يسمع أحد له.
• متلّقي: وهو الذي لا يدري من الموضوع إلا ما تلقاه من طرف واحد، فالأفضل ألا يبدي رأيه إلا نقلاً، فيقول: "فلان يقول كيت وكيت"
• مطّلع: وهو أعلى مرتبة من المتلقي، فهو ذو اطلاع أكبر في تفاصيل الموضوع، ويتلقاه من أكثر من طرف، لكنه لا زال يتلقاه على شكل "حقائق" تقدَّم له فيحفظها كما هي. وهذا عادةً إبداؤه لرأيه هو الأخطر، فهو يظن نفسه أصبح فاهماً للموضوع، وقد يبدي آراء تحمل من التعقيد ما يجعلها تبدو وجيهة، مع أنه حقيقة على خلاف ذلك. فإذا كانت درجة معرفتك في هذا المجال هي درجة متلقٍّ، فعليك التزام التواضع، والتأكيد على أن رأيك مبني على مجرد النقل
• ناقد: وهو الذي يصاحب اطلاعه على معلومات المجال بفكر نقدي، فيمتلك القدرة على مراجعة صحة المصادر وأسلوب التفكير والاستنتاج الذي وصلت له هذه المصادر. هذا الناقد عادة يمتلك القدرة على مساءلة المتخصصين واختيار استنتاجات المتخصصين التي يراها أنسب، ولكنه يفتقد القدرة على الوصول إلى استنتاجات خاصة به. فإذا أبدى رأيه، فهو عادة رأي موثوق مدعم بالأدلة، ولك أن تسأله عن المتخصصين الذين يدعمون رأيه. أما إذا وصل إلى استنتاجات لم يصل لها أي من المتخصصين، فعليك بالتشكك من رأيه.
• باحث المستقل: وهو الذي يأتي من خارج التخصص، فيأخذ موضوعاً محدداً في هذا التخصص ويتمحص فيه بكل تفاصيله. هذا الباحث يؤخذ برأيه حول هذا الموضوع كما يؤخذ برأي المتخصص، بل وربما أكثر. لكن قد لا يؤخذ برأيه في مختلف ميادين المجال، وإنما فقط في الموضوع الذي بحث فيه.
• وأخيراً، متخصص: وهو الذي درس وعمل في المجال. هؤلاء عادة وعلى الرغم من تسميتهم باسم المتخصص، إلا أنهم أشبه بالباحث المستقل في معرفتهم في المجال، فهم لديهم معرفة عامة سطحية وشاملة حول المجال وحول أنماط التفكير في هذا المجال، ولديهم عادة قدرة عالية على الانتقال بين المواضيع المختلفة في هذا المجال. لكن معرفتهم بالتفاصيل خارج ما تمرسوا فيه تكون عادة محدودة، فيجب ألا يؤخذ بها أيضاً كمصدر لا يقبل النقاش.

فهذا رأيي يا سادة، لا تسمحوا لأحد بمصادرة الآراء للمتخصصين. ولكن إن أردتم إبداء آرائكم فاعرفوا قبل ذلك ما درجة فهمكم للموضوع.

ختاماً، أتساءل إن كان سيأتي في التعليقات من يقول: "وهل أنت متخصص في تحديد درجات التخصص؟ اترك الأمر للمتخصصين يا أخي!"