مراجعة كتاب "نسيج الواقع" لديفيد دويتش - الجزء 7: الحاسوب الكمومي

هذا المنشور هو السابع في سلسلة مقالات أراجع فيها أفكار الفيلسوف والعالم الفيزيائي ديفيد دويتش، في كتابه "نسيج الواقع" The Fabric of Reality، سيحتوي المنشور على ملخص لأفكاره، تتخللها تعليقات مني. كل المنشورات ستكون تحت تاغ "نسيج الواقع"، لتسهيل إيجادها

---

وصلنا أخيراً إلى الجزء الذي سنرى فيه مساهمة دويتش العلمية، فإذا عدنا إلى أول جزء، سنذكر أني طرحت السؤال: "دويتش عالم فيزياء، فما أدخله في الحوسبة؟"، وهنا سنرى الجواب.

بدأ دويتش رحلته البحثية بإجابة سؤال طرحه العالم الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان Richard Feynman: "لماذا يصعب على حواسيب اليوم محاكاة الأنظمة الطبيعية بكفاءة، مع أن الطبيعة نفسها تقوم بمحاكاة هذه الأنظمة بكفاءة عالية"، وفعلاً، السؤال منطقي جداً! فكيف يمكن للطبيعة أن تنفذ حركة الكرة المكونة من ترليونات الذرات وهي تقفز في الهواء وترتطم على الأرض وتتفاعل مع بيئتها. كيف تقوم الطبيعة بكل هذه الحسابات في أجزاء من الثانية، لكن إذا أردنا محاكاة هذه العملية على الحاسوب بدقة، يلزمنا وقت يضاهي عمر الكون نفسه لنحاكيها

عمر الكون نفسه؟ ما المقصود هنا؟ هل فعلاً محاكاة حركة كرة هو أمر بهذه الصعوبة؟ لأوضح الأمرفلنتخيل أن لدينا كرة مؤلفة من 4 ذرات، ليس من ترليون ذرة، وكل ذرة تؤثر بالذرات من حولها، فتجذبها أو تدفعها. ولنتذكر أيضاً المشكلة الكبيرة في الميكانيك الكمومي "أن الذرة يمكن أن توجد في مكانين في الآن نفسه". 

إذاً، إذا أردت أن أحسب كيف تؤثر هذه الذرات الأربع على بعضها، فيجب أن أقوم بـ16 حساب مختلف، لماذا؟ تخيل أن أمامك أربع أوراق شدة: ديناري، كبة، سباتي، وبستوني. وكل من هذه الأوراق قد تكون في إحدى حالتين:على وجهها أو على قفاها. بكم حالة بالمجمل يمكن أن توجد هذه الأوراق؟ (جرب أن تحسبها قبل أن تنظر إلى الصورة المرفقة)

 


الجواب هو 16، إذا كان عندنا 4 أوراق، وكل ورقة لها حالتان ممكنتان (وجه أو قفا)، فهناك 2x2x2x2=16 حالة بالمجمل. وبالمثل لذراتنا الأربع، فإذا كان بإمكان كل ذرة أن توجد في إحدى مكانين، فهناك 16 حالة ممكنة لهذه الذرات، وكل من هذه الحالات يلزمه حساب مستقل. ولكن 16 ليس رقماً سيئاً. فما المشكلة؟ 

فلنجرب، إذا جعلنا عدد الذرات خمساً بدل أربع، فإن عدد الحالات الممكنة سيصبح 2x2x2x2x2=32 وإذا جعلناها ستاً، سيصبح عدد الحالات 64، ولسبع ذرات 128 حالة، وهكذا، كل ما زدنا ذرة واحدة، ضربنا عدد الحالات باثنين، فإذا وصلنا ل10 ذرات مثلاً، أصبح لدينا 1024 حالة. الرقم يتسارع، كل ما زدت ذرة واحدة اضطررت لمضاعفة عدد الحالات! من 16 حالة عندما كان لدي 4 ذرات، إلى 1024 حالة عندما أصبح لدي 10 ذرات. يسمى هذا في الرياضيات بالازدياد الأسي exponential increase، وهو يتزايد بسرعة لامنطقية، حيث إذا أصبح لدينا 100 ذرة، فإن عدد حالاتها يصل إلى 1267650600228229401496703205376 حالة. تأمل يا صديقي، هذا عدد الحسابات التي يجب علينا عمله إذا أردنا أن نحسب فقط حركة مئة ذرة، وليس ترليون ذرة. هذا الرقم أبعد من حدود التفكير، فإذا أردت العد إلى هذا الرقم، وكنت قادراً على عد مليار رقم في الثانية الواحدة، نعم. فلنتخيل أن لدي القدرة على عد مليار رقم كل ثانية، سيلزمني مع ذلك 40000000000000 سنة -سنة، وليس ثانية- لأنهي العد... هذا فقط لحساب حركات مئة ذرة.

ومع هذا، فإن الطبيعة تقوم بهذا في جزء من الثانية. كيف؟

جوابك الأول قد يكون أن الطبيعة ليست حاسوباً أصلاً، ولا تقوم بالحسابات. ولكن، هل أنت متأكد من هذا الجواب؟ ما هو الحاسوب أصلاً؟ الحاسوب ليس سوى مجموعة من الدارات الكهربائية المصفوفة بأسلوب معين يسمح لنا باستخدامها في عمل الحسابات، لكن الحسابات موجودة في داخل هذه الدارات أصلاً، حركة الإلكترونات في الدارات هي حسابات، الإلكترون يتحرك وفق دالة رياضية، وكأنه يقوم بحساب هذه الدالة ويتحرك على أساسها، وجل ما نفعله في الحاسوب هو صفّ الإلكترونات بطريقة معينة تجعل حركتها مفيدة لنا. فقط، لا غير.

لكن المشكلة أننا نصفّ هذه الدارات وهذه الإلكترونات، لتقوم بالحسابات بذات الأسلوب الذي يقوم به العقل البشري. لا يوجد شيء يستطيع الحاسوب الحالي القيام به ولا يستطيع العقل البشري فعله، لأن الحاسوب صمم انطلاقاً من عمليات الحساب التي يقوم بها العقل البشري. الحاسوب أسرع، لأنه صمم تحديداً بغرض القيام بهذه الحسابات، أما العقل البشري فصممه التطور للقيام بأمور معينة تساعده على النجاة، وليس للقيام بهذه الحسابات بشكل رئيسي. ولكن باستثناء هذه الفروقات، فإن الحاسوب يعمل تماماً كما يعمل العقل البشري.

ولكن الطبيعة تعمل بشكل يفوق هذين الحاسوبين (الحاسوب والعقل البشري)، فلماذا نقصر أنفسنا على استخدامهما، فلنبنِ حاسوباً يعتمد على مبادئ الطبيعة الأساسية، كالميكانيك الكمومي. فإذا قلنا أن الإلكترون فعلاً لديه القدرة على أن يكون في مكانين معاً في الآن ذاته، وإذا قلنا أن الحسابات تعتمد فقط على حركة الإلكترونات، أفلا يمكنني أن أستخدم هذا الإلكترون لأقوم بحسابين في الآن ذاته؟

بل يمكنني فعلاً، حيث اكتشف دويتش أن الحواسيب الحالية كلها تقوم على افتراض أن ورقة اللعب تكون إما على وجهها أو على قفاها، ولكن إذا افترضنا أن الورقة قد تكون على وجهها وقفاها في الآن ذاته، يمكننا القيام بحسابات مختلفة في الآن ذاته، وقام باختراع أول خوارزمية كمومية Quantum Algorithm، حيث أخذ مثالاً لمسألة رياضية لا يمكن حلها إلا عن طريق أن تجرب جميع الحلول واحداً تلو الآخر حتى تجد الحل، يعني أن تقول "هل الجواب هو 1؟ هل الجواب هو 2؟ هل الجواب هو 3؟..." ثم قام باستخدام قوانين الميكانيك الكمومي ببناء برنامج يجرب كل حلول المسألة في الآن ذاته، ليجد الجواب مباشرة. نعم، بدل أن تجرب حلول المسألة حلاً تلو الآخر، يمكنك أن تتلاعب بقوانين الفيزياء لتسمح لك تجربة الحلول كلها في آن واحد. (هناك حدود للموضوع وهو ليس بهذه البساطة، لكني لن أدخل في التفاصيل لأبقي المقال مفهوماً)

إنجاز دويتش هذا أحدث ضجة هائلة دفعت عالم الحوسبة بيتر شور Peter Shor إلى أن يجرب تطبيق حل دويتش على مسألة رياضية مشهورة، وهي إيجاد العوامل الأولية لعدد معين. حيث أن عوامل العدد 21 مثلاً، هي 7 و3، لأن 7x3=21. وكذلك عوامل الرقم 36 مثلاً هي 2و 3، إلخ. هذه العوامل لا نعلم طريقة لإيجادها إلا عن طريق التجريب. بأن نجرب قسمة عددنا على الأعداد الأولية واحداً تلو الآخر، فنرى أيها يمكن قسمته وأيها لا. وهذا لا بأس به للأعداد الصغيرة، ولكن ما هي عوامل العدد 23124235234534534645623 مثلاً؟ من المستحيل أن تقوم بتجريب كل الأعداد لمعرفة الجواب، ولكن بيتر شور نجح باختراع خوارزمية كمومية قادرة على تجريب الأعداد في الآن ذاته، وإيجاد الجواب للمسألة بوقت قياسي، مثبتاً القدرة الهائلة للحواسيب الكمومية، وتتالت من بعدها الإنجازات، واستطاع العلماء حل الكثير من المشكلات العصية واحدة تلو الأخرى باستخدام هذه الحواسيب الكمومية.


الحواسيب الكمومية ما زالت في طفولتها، وهناك عوائق صعبة يجب أن نحلها قبل أن نستطيع استخدامها بشكل عملي، لكن المستقبل آت.

وختاماً، فإن دويتش يسأل الرافضين لتأويل الأكوان المتوازية للميكانيك الكمومي: "إن كانت ليس هناك أكوان متوازية، فكيف يمكنني باستخدام حاسوبي الكمومي هذا، القيام بحسابات لا يمكننا القيام بها ولو استخدمنا كل ذرات الكون؟ أليس هذا دليلاً أننا نستعمل ذرات من أكوان أخرى؟"

Comments

Popular Posts