مراجعة كتاب "نسيج الواقع" لديفيد دويتش - الجزء 6: نظرية التطور، المعلومات، والميمز

هذا المنشور هو السادس في سلسلة مقالات أراجع فيها أفكار الفيلسوف والعالم الفيزيائي ديفيد دويتش، في كتابه "نسيج الواقع" The Fabric of Reality، سيحتوي المنشور على ملخص لأفكاره، تتخللها تعليقات مني. كل المنشورات ستكون تحت تاغ "نسيج الواقع"، لتسهيل إيجادها

---

في الجزء السابق ذكرنا أن دويتش يعتقد أن قوانين المعلومات Information Theory والحوسبة Computation Theory هي قوانين كونية، ولا بد لنظرية كونية شاملة أن تكون قادرة على تفسير كيفية انبثاق قوانين كهذه. وبالنسبة له، فإن قوانين الفيزياء بصيغتها الحالية المعتمدة على حركة الجزيئات الأساسية، غير قادرة على هذا التفسير.

هذه القوانين الفيزيائية كما يرى دويتش، هي غير قادرة أيضاً على تفسير كيف تطورت الحياة على هذا الكوكب. وفي هذا الجزء، سأشرح نظرية دويتش لهذا الموضوع.

(مهم: في الكتاب، يقدم دويتش الفكرة بطريقة قد تكون أبسط مما سأقدمه، لكنها لا تفي الفكرة حقها، وقد أخذني الأمر الكثير من البحث لأفهم أهمية الفكرة، لذا فسيكون هذا المقال إعادة صياغة شبه كاملة للفكرة، ولا أدري إن كان دويتش فعلاً يقصد هذا أو شيئاً آخر)

---

أولاً، إذا أردنا أن نجد تفسيراً جيداً للحياة على هذا الكوكب، فيجب أن نعيد التفكير في كيفية عمل هذا العالم: حالياً، الفكرة السائدة هي أن العالم محكوم بحركة الجزيئات الرئيسية، كالإلكترونات والبروتونات وغيرها، وهذا صحيح نوعاً ما، لكن هناك طريقة أخرى للنظر إلى الموضوع:

فلنفترض أن كل جزيئة في هذه الدنيا هي حاسوب، وهذا الحاسوب يحمل في داخله برامج تحدد كيفية تفاعله مع البيئة المحيطة به. هذه البرامج هي قوانين حركة الجزيئات. فالإلكترون مثلاً، هو حاسوب قادر على تنفيذ برنامج واحد يحكم حركته وتأثيره على الجزيئات من حوله. لكنه بمفرده لا يمكنه القيام ببرامج أكثر تعقيداً من هذا، فالإلكترون يحمل فقط "درجات حرية degrees of freedom" محدودة، وهي موقعه واتجاه دورانه، ولا يمكنه التأثير بالعالم حوله إلا من خلال ما تسمح به درجات الحرية هذه. وكأن الإلكترون حرف في اللغة الإنكليزية، نحاول تشكيل كلمات من خلاله، فلا يمكننا تشكيل إلا كلمات محدودة، ككلمة أنا I، أما إذا كان لدينا إلكترونان اثنان، فتأثيرهما على العالم من حولهما أعقد وأكثر اتساعاً، ويمكنهما أن يجذبا الجزيئات من حولهما وفق مسارات لا يمكن تنفيذها عن طريق إلكترون واحد. نقول إن "درجات حريتهما ازدادت"، أو في تشبيه الكلمات، نجد أن لدينا كلمات أكثر يمكن صنعها من حرفين، مثل هو he، ونحن we، وفي at، وذهب go، وغيرها.

وهكذا، كل ما زاد عدد الجزيئات، زادت درجات الحرية، وزاد عدد الكلمات (أو البرامج) التي يمكن تنفيذها على هذا الحاسوب. وسيصبح لدينا برامج جديدة يمكن تنفيذها لم تكن ممكنة أبداً في درجات الحرية الأقل. واحد من هذه البرامج التي قد نحصل عليها، هو برنامج "انسخني".

برنامج انسخني، هو ببساطة برنامج يؤثر ببيئته عن طريق جعلها تنسخه. وبالتالي ستقوم بيئته بنسخه، وسيصبح لدينا منه اثنان. بعد ذلك، ستجد البيئة لديها اثنين من هذا البرنامج، فستقوم بنسخهما كليهما، وستعيد النسخ مراراً وتكراراً حتى تمتلئ البيئة بنسخ من هذا البرنامج. عندها، سيكون على هذه النسخ التنافس على البقاء، وستنتشر البرامج التي تجعل بيئتها تنسخها بفعالية أكثر، فمثلاً، برنامج "انسخني أربع مرات"، سينتصر على برنامج انسخني، وبرنامج "انسخني، وسمم كل من يقترب مني" سينتصر أيضاً على برامج أخرى، وهكذا.

ندعو هذا البرنامج، بالحياة. 

هذه الملاحظة تعود بشكل رئيسي لعالم الأحياء الشهير ريتشارد دوكينز Richard Dawkins، صاحب مفهوم الجين الأناني The Selfish Gene، الذي لاحظ أن الانتقاء الطبيعي لا يتم حقيقة على مستوى الفرد، ولا على مستوى العرق، ولا على مستوى الجماعة. بل على مستوى الجين (المورث) تحديداً، لأن الجين هو الكائن الوحيد الذي يتم نسخه، هو الكائن الوحيد الذي يحمل تعليمات "انسخني" في داخله (دوكينز لا يشبه الحياة بالبرامج الحاسوبية، هذا التشبيه مني). 

في كتاب الجين الأناني، لاحظ دوكينز أيضاً، أن هذه الآلية من النسخ والمنافسة والانتقاء ليست محدودة بالجينات، بل تنطبق أيضاً على بعض الأفكار، التي دعاها بالميمز memes (ومن هنا أتى مصطلح الميمز التي نتناسخها على الإنترنت، لأن الميمز تحمل في داخلها ما يجعلك تنسخها إلى أصدقائك)، حيث أن هذه الميمز تتناسخ بين العقول وتنتقل من عقل إلى آخر بأساليب مختلفة، وتتطور عن بعضها البعض، وتتعرض للانتقاء الطبيعي بسبب محدودية الموارد العقلية.


هذا التشابه في الصفات ما بين الجينات الملموسة والأفكار الغير ملموسة هو ما جعل دويتش يصف الجينات بأنها "كائن حامل للمعرفة knowledge-bearing entity"، لأنه يحمل معرفة في داخله عن البيئة المحيطة به، بما يكفي لجعل هذه البيئة تنسخه، وكأن في داخل هذا الجين نظرية عن كيفية البقاء، وهذه النظرية إما تخطئ وإما تصيب، فإن أصابت نسخ، وإن أخطأت فني. ويركز دويتش كثيراً على مفهوم المعرفة هذا، لأنه يقول إن ما ينجو ويستمر في هذه العملية، هو ليس الكائن الفيزيائي نفسه، وإنما المعلومات، أو النظريات، أو البرنامج. فهذا البرنامج عادة لا يكون ببساطة كلمة "انسخني"، فهذه الكلمة قد لا تودي بأحدنا إلى نسخها، ولكن إن كانت "إذا لم ترسلني إلى عشرة أشخاص سيظهر لك عفريت"، فقد ننسخها حينها، لأن هذا البرنامج يحمل في داخله "نظرية" أنسب حول ما يدفع البشر إلى تنفيذ الأوامر، وهو الخوف من العفاريت.

وهذه الطريقة في توصيف الحياة على أنها برنامج يحوي تعليمات "انسخني"، هو ما يجعل علم المعلوماتية بغاية الأهمية. فعلم المعلوماتية والحوسبة مهتم تماماً بتوصيف البرامج التي يمكن أو يستحيل عملها باستخدام درجات معينة من التعقيد، هذا ما يدرسه طلاب علم الحوسبة كل يوم، فإذا فهمنا وأخيراً أن كل ما يجري في العالم ما هو إلا حوسبة، فسيمكننا تطبيق مبادئ علم الحاسوب على كل شيء، وحينها قد نستطيع الوصول إلى حل مشكلة أصل الحياة، عن طريق إيجاد أصغر درجة حرية لازمة لإنشاء برنامج "انسخني".

وتفكيرنا بالعالم بهذا الأسلوب، من ناحية البرامج الممكن تنفيذها، قد يقودنا إلى نتائج تختلف عن النتائج التي قد نستنتجها إذا اعتمدنا فقط على حركة الجزيئات. فبرنامج الحياة له أثر لا يمكن إهماله على هذا الكون. فقد تسبب الحياة في المستقبل بأمور تناقض  تنبؤات علم الفيزياء، فعلم الفيزياء يتنبأ أن شمسنا ستنطفئ في يوم من الأيام، لكن الحياة قد ينتج عنها ما يخالف هذه التنبؤات، لأنها قد تتوصل إلى اختراع طريقة لحماية الشمس  من الانطفاء والاستفادة منها لمدة أطول بكثير.

أيضاً، فإن التفكير في العالم على أنه مجرد حوسبة قد أوصلنا إلى نتائج لم تخطر لنا من قبل، فقد استطعنا إنشاء حواسيب تفوق في قدراتها حواسيب اليوم بأضعاف مضاعفة، وهذا ما قد قام ديفيد دويتش بعمله فعلاً عندما صمم أول حاسوب كمومي، وهو موضوع الجزء القادم.

---

مصادر إضافية:

* كتاب نسيج الواقع، الفصل الثامن https://www.goodreads.com/book/show/177068.The_Fabric_of_Reality

* مفهوم درجات الحرية https://en.wikipedia.org/wiki/Degrees_of_freedom_(statistics)

* كتاب الجين الأناني https://www.goodreads.com/book/show/61535.The_Selfish_Gene

* كتاب آلة الميمز https://www.goodreads.com/book/show/254502.The_Meme_Machine

* مقابلة مع ديفيد دويتش "ما هي قوانين الطبيعة الأساسية" https://www.youtube.com/watch?v=2BLo2SdmjLI

Comments

Popular Posts