مراجعة كتاب "نسيج الواقع" لديفيد دويتش - الجزء 5: أهمية الحوسبة في فهم الواقع
هذا المنشور هو الخامس في سلسلة مقالات أراجع فيها أفكار الفيلسوف والعالم الفيزيائي ديفيد دويتش، في كتابه "نسيج الواقع" The Fabric of Reality، سيحتوي المنشور على ملخص لأفكاره، تتخللها تعليقات مني. كل المنشورات ستكون تحت تاغ "نسيج الواقع"، لتسهيل إيجادها
---
في الجزء السابق، ذكرنا أن دويتش وضع معياراً للحقيقة بقوله "كل ما يلزم كمية كبيرة من الحوسبة لإيهامنا بأنه حقيقي، هو حقيقي". لكن لماذا أدخل الحوسبة في الموضوع؟
سنرى هنا، لأول مرة، ما يميز فلسفة دويتش عن غيره، فكل ما ورد من قبل هي أمور يتفق عليها العلماء بدرجات مختلفة، أما محتوى هذه الفصول القادمة، فهي محور فكر دويتش، الذي سيدفعه بعد كتابة هذا الكتاب ب19 عاماً، ليقدم أخيراً نظرية كلية Theory of Everything، تدعى بنظرية الباني Constructor Theory. سأفرد جزءاً في نهاية هذه السلسلة للحديث عن هذه النظرية، أما الآن، ما أهمية الحوسبة عند دويتش؟
(ملاحظة: هذا الجزء سيكون مبنياً بشكل رئيسي على تأويلاتي لأفكار دويتش، أما الكتاب حقيقة فهو يفرد جزئين للحديث عن الواقع الافتراضي Virtual Reality وقوانين الحوسبة Theory of Computation، ولا يوضح بشكل جيد الاستنتاجات الفلسفية التي يصل لها)
يبدأ دويتش شرحه بتذكرتنا:
"الحواسيب هي أشياء فيزيائية، والحسابات هي عمليات فيزيائية أيضاً. ما يمكن أو لا يمكن لحاسوب عمله تحدده فقط قوانين الفيزياء، وليس الرياضيات المحضة"
هذا التمييز مهم لأسباب عديدة، حيث إذا افترضنا أن النظرية الكلية التي نسعى إليها لفهم كل شيء ستكون مبنية على توصيف حركة الجزيئات الأساسية من كواركات وإلكترونات وغيرها، فلن نستطيع فهم ما يفعله الحاسوب، رغم أنه مصنوع من هذه الجزيئات لا غير. ففعلاً، على الرغم من أن ما يقوم به الحاسوب هو فقط تحريك لهذه الجزيئات، إلا أن الحالة النهائية التي تنتهي إليها كل من هذه الجزيئات يحددها علم ميتافيزيقي مبني على نظرية المعلومات Information Theory ونظرية الحوسبة Computation Theory. وإذا أردنا أن نصل إلى نظرية كلية قادرة على تفسير كل شيء، فلا بد من جعل هذه النظريات المعلوماتية نظريات فيزيائية.
الفكرة صعبة صراحة، وما زلت غير مرتاح في وصفها مئة بالمئة. لكني أظن أن الطريقة الأمثل لفهم الفكرة، يبدأ من فهم من هو ديفيد دويتش. دويتش، كما ذكرنا من قبل، هو عالم فيزيائي وفيلسوف، لكن الأهم من ذلك كله أنه هو مخترع الحوسبة الكمومية Quantum Computing، فقبل دويتش، كان علما الحوسبة والمعلومات محدودين بشكل رئيسي بالحدود التي رسمها العالمان الرياضيان الشهيران آلان تيورينغ Alan Turing (الذي يدور فيلم The Imitation Games حوله)، و كلود شانون Claude Shannon. هذه الحدود كانت مبنية بشكل رئيسي على الرياضيات، وكانت تخبرنا بما يمكن أو يستحيل على حاسوب عمله. حيث قام تيورينغ بتخيل مفهوم رياضي أسماه آلة تيورينغ The Turing Machine، ثم أثبت رياضياً أن كل حواسيب العالم ما هي إلا آلات تيورينغ رياضية، ومن ثم أثبت أن هناك معضلات معينة يمكن لآلة تيورينغ حلها، ومعضلات أخرى يستحيل حلها.
لكن، في سبعينيات القرن الماضي، طرح الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان Richard Feynman سؤالاً مهماً: "إذا كانت هذه الحدود صحيحة، فلماذا تستطيع الطبيعة القيام ببعض الحسابات بشكل أسرع بكثير من هذه الحواسيب؟"، هذا السؤال وضع دويتش الشاب على طريق بحثي أدى به إلى إصدار ورقة عام 1985 اقترح فيها حاسوباً رياضياً مبنياً على قوانين فيزياء الكم، أسماه بآلة تيورينغ الكمومية Quantum Turing Machine، ووضح فيه كيف أن هذه الآلة قادرة على تجاوز الحدود التي رسمها تيورينغ من قبل.
رحلة دويتش هذه قد توضح لنا فكرته أكثر، حيث أنه استطاع باستخدام القوانين الفيزيائية تجاوز الحدود الرياضية التي وضعها تيورينغ. وهذا كان إشارة له بأن الحسابات هي عملية فيزيائية يجب أن تحدها قوانين الفيزياء، بل والأكثر من ذلك، يجب أن تكون القوانين الحوسبية وقوانين المعلومات على نفس درجة أهمية قوانين حركات الجزيئات الأساسية، ودويتش ليس أول من قال بهذا، حيث أن العالم الفيزيائي رولف لانداور Rolf Landauer قد نشر أيضاً ورقة مهمة في عام 1991 باسم "المعلومات فيزيائية Information is Physical".
إذاً، هناك علاقة مهمة بين المعلومات والحسابات وبين العالَم الفيزيائي الذي نعيش فيه، وإهمال هذه العلاقة، أو اعتبار أن المعلومات "لا معنى لها من دون وجود عقل يستوعبها" هو، برأي عدد متزايد من الفيزيائيين، غير صحيح، بل وهو تفسير دائري، لأن هذه العقول مصنوعة أساساً بناء على معلومات متعلقة بنجاة الجينات التي أنتجت هذا العقل (سأعود لهذا في جزء آخر).
في الكتاب، يأخذ دويتش هذه الفكرة ويحاول استكشاف أبعادها، فيبدأ أولاً بالتفكر في موضوع الواقع الافتراضي Virtual Reality، كالذي يستخدمه الطيارون للتدرب على الطيران بشكل آمن، حيث يجلس الطيار أمام الجهاز ويتحكم بطائرة وهمية فتصعد وتهبط وتتحرك تماماً كأنها طائرة حقيقية. بالنسبة لدويتش، هناك تشابه لا يمكن غض النظر عنه بين الواقع الافتراضي هذا، وبين حواسنا المستقبلة للواقع الحقيقي، وبين نظرياتنا العلمية أيضاً.
فهذه الأمور الثلاثة تقوم بالعملية ذاتها، وهي إنتاج وهم تقريبي غير دقيق عن الواقع، ولا يمكننا معرفة إن كان هذا الوهم حقيقياً أو لا، إلا عندما يفشل، أي عندما يتم دحضه تجريبياً بالأسلوب البوبري. فالمحاكاة الافتراضية مثلاً، يمكنك أن تظن أنها حقيقية تماماً، ولكن لا يمكنك إثبات ذلك حتى لو قمت بالتجول فيها كلها ومقارنة كل جزء منها مع الواقع، فهذا لن يكون كافياً لإثبات أنها حقيقية، ولكن يمكن إثبات أنها غير حقيقية عندما تفشل في محاكاة الواقع، فالواقع الافتراضي يمكن معرفة أنه غير حقيقي إذا سقطت الطائرة سقوطاً حراً، فحينها نعرف أنه غير حقيقي لأننا لا نشعر بداخل جسمنا بإحساس هذا السقوط، والنظرية العلمية نعرف أنها غير حقيقية عندما نجد ظواهر تعارض تنبؤات هذه النظرية. أما حواسنا، فنحن نعرف تماماً أنها تنتج لنا وهماً عن الواقع، فهي تخبرنا أن الأرض ثابتة ومسطحة، مع أننا نعلم أنها مفلطحة تتحرك بسرعات خيالية، وتخبرنا حواسنا أيضاً أن كوب القهوة متماسك متواصل، مع أنه حقيقة أغلبه فراغ (معظم مساحة الذرة فراغ). إذاً، فإن هذه الأمور الثلاثة تشترك في كونها نظريات عن الواقع، مكونة من المعلومات والحسابات التي هي كما ذكرنا أمر فيزيائي.
إذاً، فالنظريات هي كائن فيزيائي أيضاً، وقد يكون أكبر دليل على هذا هو الجينات، التي سأتحدث عنها في الجزء القادم كما سأتحدث عن تعريف دويتش لل"معلومات"
وختاماً، فقد قال غاليليو من قبل: "إن كتاب الطبيعة العظيم مكتوب بلغة الرياضيات"، وأظن دويتش وأصدقاءه الآن يقولون: "إن كتاب الرياضيات العظيم، مكتوب بلغة الطبيعة"
---
مصادر إضافية:
* كتاب نسيج الواقع لديفيد دويتش، الفصول 5 و6 و8 و9.
* نظرية الباني https://en.wikipedia.org/wiki/Constructor_theory
* نظرية الحوسبة https://en.wikipedia.org/wiki/Theory_of_computation
* نظرية المعلومات https://en.wikipedia.org/wiki/Information_theory
* ورقة ريتشارد فاينمان التي أدت إلى الحوسبة الكمومية http://physics.whu.edu.cn/dfiles/wenjian/1_00_QIC_Feynman.pdf
* ورقة دويتش حول آلة تيورينغ الكمومية http://www.daviddeutsch.org.uk/wp-content/deutsch85.pdf
* ورقة "المعلومات فيزيائية": http://www.w2agz.com/Library/Limits%20of%20Computation/Landauer%20Article,%20Physics%20Today%2044,%205,%2023%20(1991).pdf
Comments
Post a Comment