مراجعة كتاب "نسيج الواقع" لديفيد دويتش - الجزء 3: المنهج العلمي، وحل المعضلات
هذا المنشور هو الثالث في سلسلة مقالات أراجع فيها أفكار الفيلسوف والعالم الفيزيائي ديفيد دويتش، في كتابه "نسيج الواقع" The Fabric of Reality، سيحتوي المنشور على ملخص لأفكاره، تتخللها تعليقات مني. كل المنشورات ستكون تحت تاغ "نسيج الواقع"، لتسهيل إيجادها
---
الكربوج في الصورة أدناه هو العالم جون بيل، سآتي على ذكره في آخر المقال
---
إذاً، في الجزء السابق تكلمنا عن ميكانيك الكم، وكيف أن استنتاجاته أرّقت فيزيائيي القرن العشرين. حيث يبدو الإلكترون وكأنه يمر من ثقبين في الوقت ذاته، ثم يرتطم بنفسه ويسقط في مكان معين. قد نظن أن التجربة فيها خطأ، أو أن الإلكترون ربما يرتطم بأمور أخرى لم نحسب لها حسباناً، لكن المشكلة أن العلماء جربوا تجارب متنوعة بأشكال متنوعة، ووصلوا دائماً إلى نفس النتيجة: الإلكترون يبدو وكأنه قادر على التواجد في أكثر من مكان في الوقت ذاته، ويتحرك بحركة تبدو وكأنه يرتطم بنسخ أخرى منه. لكننا لا نرى أياً من هذه النسخ، بل حتى عندما نجرب متابعة حركة الإلكترون، تختفي هذه الارتطامات كلها، ويتحرك الإلكترون بشكل طبيعي. للتوضيح، تخيل أنك ترمي كرة سلة وأنت مغمض عينيك، ثم حين تفتح عينك، تراها قد ارتدت إليك وكأنها ارتطمت بكرة سلة أخرى. لكن، إذا أعدت التجربة وأنت مفتح عينيك، سترى الكرة ترتمي إلى الأمام من دون أي مشكلة. الأنكى من ذلك، أن هذه الحركة كلها ليست عشوائية، بل هي تتبع معادلة دقيقة تدعى بمعادلة شرودنغر Schrodinger's Equation، وهذه المعادلة تفترض أن الإلكترون يمر من خلال الثقبين معاً. المشكلة أن شرودنغر نفسه يكره معادلته هذه، فقد ذكر ممتعضاً في رسالة منه إلى آينشتاين أنه يرى الأمر ضرباً من الجنون! وطلب منه أن يتخيل أنه وضع قطة في صندوق، وربط حساساً ليتتبع حركة الإلكترون، فإذا مر الإلكترون من الثقب اليساري، أطلق الحساس غازاً ساماً داخل الصندوق، وإذا مر من اليميني لم يطلق الغاز. فماذا يحصل إذاً عندما يمر الإلكترون في الثقبين معاً؟ هل تموت القطة أم تعيش؟؟ أم تكون حية وميتة في الآن ذاته؟؟؟
لذلك، فعندما أتى هيو إيفيريت Hugh Everett بتأويل الأكوان المتوازية لميكانيك الكم، وصف الأمر بأنه "علاج نفسي" للأرق الذي أصاب الفيزيائيين عبر عقود، ذلك بأننا إذا قبلنا بحل الأكوان المتوازية، يصبح الأمر بسيطاً جداً، ففعلاً، يقول تأويل الأكوان المتوازية أن الكون ينشطر عند حصول كل حدث كمي، وتتفاعل هذه النسخ مع بعضها بشكل محدود، ثم تتباعد إلى ما لا نهاية. فالقطة إذاً ليست حية وميتة في الآن ذاته، وإنما حية في أحد الأكوان وميتة في الآخر.
لكن لماذا يرى دويتش أن تأويل الأكوان المتوازية هو الأمثل؟ هل من المنطقي أن نستدعي عدداً لامنتهياً من الأكوان لتفسير ظاهرة بهذه البساطة؟ وإذا كان هناك كل هذه الأكوان، فأين هي؟ لمَ لا نراها؟ كيف نثبت وجود أكوان متوازية؟
---
لإجابة هذا السؤال، يستدعي دويتش قواعد الفيلسوف كارل بوبر Karl Popper، صاحب المذهب البوبري في التفسير العلمي، فكما سنرى فيما تبقى من هذا الكتاب، فإن دويتش بوبري أكثر من بوبر نفسه. وقواعد بوبر هي قواعد في غاية البساطة:
أولاً، غاية العلم هي حل المعضلات، حيث أننا دائماً في بحثنا العلمي سنواجه معضلات وتحديات متنوعة. قد تكون المعضلة أن نظرياتنا تقود إلى استنتاجات متناقضة، أو أن هناك أموراً لا تستطيع نظرياتنا تفسيرها، أو أن بعض نظرياتنا يمكن توحيدها بنظريات أعم وأشمل، أو كما في حالتنا، أن بعض نظرياتنا تجبرنا على الاعتقاد بأمر لامنطقي، أن "الاحتمالات ترتطم مع بعضها"
ثانياً، العلم لا يعتمد على الاستقراء أو التعميم، فليست غاية العلم هي أن نقول: "كل الوز الذي رأيناه أبيض، إذاً فكل الوز أبيض"، وإنما غاية العلم أن يأتي بتفسيرات "لماذا كل الوز أبيض؟"، وفي بحثه عن التفسيرات، قد يجد العلم استنتاجات أعمق حتى من المشاهدات التي رأيناها، فقد يجد العلم أن كل الوز أبيض بسبب مورث معين، وأن وجود طفرة معينة على هذا المورث قد تؤتي وزاً أسود، فيتنبأ العلم بوجود الوز الأسود حتى قبل أن نراه (وحقيقةَ فإن دويتش في نقطة الاستقراء بالذات بوبري أكثر من بوبر نفسه. حيث أن بوبر اعترف أن العلم سيظل يعتمد على الاستقراء، لأنه سيظل يفترض أن التفسيرات التي نفعت في الماضي ستنفع في المستقبل. لكن دويتش يرفض هذا التنازل حتى، ويبرر ذلك في فصل كامل سأحجم عن شرحه لأنه مطول جداً، لكن يمكنك التواصل معي لنتناقش فيه إن كان يهمك الأمر)
ثالثاً، لا يوجد في العلم شيء اسمه إثبات، في العلم هناك دحض فقط، لا إثبات. فكما قلنا، غاية العلم حل المعضلات، وكلما واجهتنا معضلة، سنجد عدة حلول لها، فكيف نختار بين هذه الحلول؟ نقوم بتصميم تجارب قادرة على نسف هذه الحلول. نعم، ركز معي، نريد تجارب تنسف الحلول، لا تثبتها. فإذا مررنا حلولنا على هذه التجارب، انتسفت كل الحلول وبقي حل واحد هو الحل الأقوى، الحل الذي نجا من النسف. فنأخذ به، ونظل عليه حتى يأتي ما ينسفه فنأخذ بغيره.
رابعاً، وأخيراً، ماذا نفعل إذا بقي عندنا حلان لم نستطع نسف إياهما؟ بأيهما نأخذ؟ في هذه الحالة، نستعمل أداة فلسفية تدعى بنصل أوكام Occam's Razor، فنأخذ بالحل الأبسط. مثلاً، إذا درسنا حركة الكواكب كما فعل غاليليو، فوجدنا أن حركتها يمكن وصفها بسهولة شديدة إذا افترضنا أن الكواكب والأرض يدورون حول الشمس، فنحن أمام حلين الآن: إما أن نصدق المعادلة، ونقول إن الأرض تدور حول الشمس كما قال غاليليو، أو أن نرفض المعادلة كما فعلت الكنيسة، لأن ديننا، وحواسنا البسيطة ترفض ذلك، ونقول إن الكواكب تدور حول الأرض، لكن مساراتها حول الأرض يمكن وصفها بمعادلة نفترض فيها أنها تدور حول الشمس، فقط من أجل السهولة الرياضية.
هذه النقطة الرابعة، تلخص موقف دويتش من نظرية الأكوان المتوازية. فنعم، الأكوان المتوازية تخالف كل حواسنا، وربما تخالف بعض معتقداتنا الدينية، لكنها بكل بساطة تصديق لمعادلة شرودينغر، للمعادلة التي استطاعت عبر المئة عام الماضية توصيف حركات الجزيئات الكمية بشكل هائل الدقة. بالنسبة لدويتش، ليس من المنطقي أن تنتظر لترى الأكوان المتوازية بعينيك لتصدق، فأنت لا ترى الأرض تتحرك، وترى الشمس تدور حول الأرض، لكنك تصدق المعادلات، والمعادلات تخبرك أن الأرض تدور مسرعة حول الشمس. وبالمثل، فإن معادلة شرودنغر تخبرك أن هناك نسخاً أخرى من الإلكترون، نعم، يمكنك أن تقول "الإلكترونات تتحرك وكأنها ترتطم بنسخ أخرى من نفسها، لكنها في الحقيقة لا ترتطم بأي شيء"، لكن دويتش يسألك: ما هو الجواب الأبسط؟
---
إذاً، بالنسبة لدويتش، تأويل الأكوان المتوازية هو الأقوى بشكل رئيسي لأنه الأبسط، ولأن كل التفسيرات الأخرى تعتمد عليه دون أن تعترف به، فقط لأن عقلنا لا يريد أن يعترف أن هناك أكواناً متوازية. لكن هنا لا بد لي من أن أعقب، فتفسير الأكوان المتوازية لا يخلو من الصعوبات التي يجب عليه حلها، فالفيزيائية الشهيرة زابين هوسينفيلدر Sabine Hossenfelder شاركت مؤخراً فيديو تشرح فيه أن تأويل الأكوان المتوازية لا يخلو من الصعوبات:
https://www.youtube.com/watch?v=kF6USB2I1iU
كما أنها شاركت فيديو آخر تصف فيه فكرة الأكوان المتوازية بأنها فكرة دينية، وليست علمية:
https://www.youtube.com/watch?v=-dSua_PUyfM
لأنها ترى أنه لا يمكننا بأي طريقة إثبات وجود أكوان متوازية.
هذا النقاش والأخذ والرد، يذكرني بقصة العالم المبدع جون بيل John Bell، ففي ثلاثينيات القرن الماضي، احتدم نقاش هائل بين آينشتاين ونيلز بور، حيث اكتشف العلماء أنه عند تفتت جزيئة معينة، ينتج عنها جزيئتان تدوران حول نفسهما، فتدور إحداهما نحو اليمين، وتدور الأخرى نحو اليسار. لكن، وبما أن ميكانيك الكم لا يمكن أن يخلو من الغرابة، فإن معادلة شرودنغر تقول إن كلا الجزيئتين تدوران نحو اليمين ونحو اليسار في الآن ذاته، وفي اللحظة التي ننظر إلى إحداهما، تتخذ إحداهما اتجاه اليمين وتتخذ الأخرى اتجاه اليسار. هذا الوصف أثار جنون آينشتاين، الذي وصفه بأنه "تواصل عن بعد باستخدام الجن spooky action at a distance"، وأنه لا بد من وجود أمور أخرى لا ندري بها، تقود إلى هذه النتيجة. وظل النقاش محتدماً بعد موت آينشتاين بعقود، حتى وصف بأنه نقاش ديني لاعلمي ولا فائدة منه، فإذا اعتمدنا تفسير آينشتاين أو تفسير بور، سنحصل على نفس النتائج. لكن هذا لم يرضِ المبدع جون بيل، الذي أتى في 1964 فصمم تجربة في غاية الذكاء، أعادت النقاش من الوصف الديني إلى الوصف العلمي، وأثبتت خطأ آينشتاين، وكانت مفتاحاً لبدء ظهور أفكار الحواسيب الكمية.
لذا، من غير المثمر وصف نقاش علمي بأنه "ديني"، فقط لأنه لا يمكن إثباته بسهولة، وأرجو أن تأتي الأيام لنا بجون بيل جديد، ينقل لنا نقاش الأكوان المتوازية من الوسط الفلسفي إلى الوسط التجريبي القح، ويفتح أمامنا أبواباً جديدة لم نكن نعلم بها قط.
Comments
Post a Comment