أتعبتنا من بعدك يا غوديل

الإبستمولوجيا هي فرع من فروع الفلسفة مختص في مباحثة مصادرنا المعرفية المختلفة، وكيفية وصولنا إلى المعرفة وأساليب التوثق من صحة المعلومات أو خطئها.

فأي مصادرنا المعرفية يمكن الوثوق بها؟ وأيها يجب أن ننظر له بعين الشك؟ لإجابة هذا السؤال، اصطفت مصادرنا المعرفية على طابور المفتش، الذي أخذ ينظر إليها بعين المتفحص: أنت أيها العلم التجريبي، هل يمكننا اعتبارك مصدراً للمعرفة اليقينية؟ وأنت أيها الوحي الإلهي، كيف نصدق من يأتينا بك؟ وأما أنت يا الحدس، فربما ابتسامة أبي عبدو الفوال الصفراء نابعة من كثرة تدخينه، لا من أنه يبيعك فولاً مغشوشاً!

كل مصادر المعرفة اضطرت لوقفة الخزي هذه. إلا الفكر الرياضي، الذي مر على أطلال هذه المعمعة متبختراً، سئماً، متثائباً، وأوتي عرش اليقين في القمة دون أي مساءلة، بينما تتصارع مصادر المعرفة الأخرى على فتات الظن.

ودام هذا الحال آلاف السنين، وازداد الإيمان بقوة الفكر الرياضي والمنطقي، حتى أصبح المصدر الوحيد للمعرفة اليقينية، وانبثقت عنه أًنَويّة ديكارت Descartes' Solipsism (أنا أفكر إذاً أنا موجود)، التي تقول إنه ما بالإمكان التيقن من صحة أي شيء لا يمكن الوصول إليه بالمنطق الرياضي، والشيء الوحيد الذي يمكن الوصول إليه كذا هو وجود الشخص ذاته ووجود الإله (البرهان الوجودي ontological argument)، وأن هذا هو المصدر الوحيد للمعرفة اليقينية التي يمكن من بعدها الانطلاق لمعرفة كل شيء آخر.

بل وازداد هذا الإيمان بشكل أكبر، حين أعلن عالم الرياضيات ديفد هيلبرت David Hilbert عن أمله أننا في القرن العشرين سنتمكن من إيجاد مجموعة من المسلمات الرياضية التي يمكن من خلالها استنباط كل الرياضيات. نعم، اعتقد هيلبرت أننا نقترب من إغلاق كتاب الرياضيات، حيث سنجد مجموعة محدودة من المسلمات axioms التي ستكفينا لاستتنتاج كافة النتائج الرياضية المعروفة وغير المعروفة، باستخدام قواعد الاستنباط المنطقي rules of inference. ولكن ما طار طير وارتفع... إلا كما طار وقع...

فتحدي هيلبرت هذا كان شرارة أشعلت عقلاً من أروع عقول التاريخ، عقل الشاب كورت غوديل Kurt Godel، الذي برهن في عام 1931 نظريتي غوديل لعدم الاكتمال Godel's Incompleteness Theorems. ما هما هاتان النظريتان؟


 

أولاً - لا يمكن لأي مجموعة من المسلمات مهما كبرت ومهما تعقدت أن تغطي كل الحقائق. هناك دائماً حقائق لا يمكن الوصول إليها من المسلمات.

ثانياً - لا يمكن لأي مجموعة من المسلمات أن تثبت أنها لا تحتوي على أي تناقضات.

وهذا كل ما في الأمر، نظريتان صغيرتان هزتا عرش الرياضيات بعد أجيال من العز، وقذفا بها إلى الساحة لتتصارع مع غيرها من مصادر المعرفة.

لكن لماذا؟ لا تبدو النظرية بهذه الشدة، فلماذا أعيرها كل هذا الوزن؟

ما حدث يا سادة أن غوديل وضح للرياضيين أن الرياضيات، بل والمنطق الرياضي بمجمله، غير قادر على الوصول إلى كل الحقيقة. هناك حقائق لم ولن يستطيع المنطق الرياضي إثباتها بدءاً من المسلمات، وهذا لا يجعلها أقل حقيقة. بل والأنكى من ذلك أنه أثبت أن المنطق الرياضي بذاته غير قادر على إثبات صحة نفسه أو خلوه من التناقضات.

وبالتالي، إن كنت كديكارت، وكانت مسلمتك الوحيدة الإيمان بصحة المنطق الرياضي، فإن هناك هناك حقائق صحيحة موجودة في العالم الخارجي لن تستطيع الوصول إليها مطلقاً من مسلمتك، وهذا لا يقلل أبداً من صحة هذه الحقائق. بل وإنك لن تضمن حتى أن مسلمتك الوحيدة هذه لن تقود إلى تناقض من نوع أو آخر.

---

ولكن ماذا فعلت بنا يا غوديل؟ أتدري فداحة فعلتك؟ فتحت علينا باباً يتسع ليدخل منه كل غول وعفريت! فكيف لي الآن أن أقنع صديقي على العدول عن الاعتماد في قراراته على رمي قطعة من النقود، فهو ينفذ الأمر في حال النقش، وييتجنبه عند الطرة. ويقول لي إن هذه الأمور حقائق لا تغطيها مصادر المعرفة الأخرى كالرياضيات وغيرها، لذا فقد اتخذ مصدراً معرفياً جديداً هو الطرة والنقش!

بالفعل، يبدو أن الرياضيات قد تمسكت بعرشها كل هذا الوقت خوفاً علينا من الغرق في الفوضى، لكنها لم تعلم أن سلاحاً آخر ما زال في جعبتنا: الفكر البوبري...

قد ذكرت الفكر البوبري في بوست سابق، وهو ينسب إلى فيلسوف العلم التجريبي الشهير كارل بوبر Karl Popper، الذي يرى العلم كعملية حل معضلات problem solving، حيث نتخذ مجموعة من النظريات كمسلمات، ثم نبدأ بحل المعضلات الناتجة عن هذا القرار، فقد تكون المعضلة وجود تناقض بين بعض المسلمات، وفي هذه الحالة علينا أن ننفي بعض هذه المسلمات أو نستبدلها، أو قد تكون المعضلة أن هناك أموراً لا نستطيع تفسيرها باستخدام المسلمات الموجودة، وحينها نقوم بإضافة مسلمات جديدة، أو تعديل القديمة لتوسيعها، إلخ. إذاً، فإن الأسلوب البوبري يعتبر وجود معضلات ومشاكل في أي تفسير أمراً لا مفر منه، ويعمل بشكل جاهد على حل هذه المعضلات، علماً أن هذه الحلول ستولد مشاكل ومعضلات جديدة، وسيكون علينا حلها، لكننا في كل خطوة نقترب أكثر وأكثر من الحقيقة، وإن كان من المستحيل الوصول إلى الحقيقة المطلقة.

ولكن هذا الفكر البوبري يطبق على العلم التجريبي، فكيف سيفيدنا في معضلتنا الإبستمولوجية؟ هنا مربط الخيل: الإبستمولوجيا هي علم تجريبي! فنحن نقدّر المنطق الرياضي والعلم الفيزيائي وغيرهم لأننا جربناهم ونفعوا، فقد جربنا المنطق الرياضي على آلاف السنين كمصدر للمعرفة (وإن كان محدوداً) ولم نَخِبْ، وبالمثل جربنا بنجاح علم الفيزياء والكيمياء وغيرها كمصدر معرفي. إذاً، فإن الإبستمولوجيا علم تجريبي كغيرها من العلوم، علم مكون من مسلمات متعددة، ويواجه معضلات متعددة، ويحتاج إلى عملية بوبرية مستمرة لتطويره.

---

ختاماً، بعد كل هذا الحديث، لا بد من ربط هذا النقاش كله بالسؤال الأهم: هل يعد الوحي الإلهي مصدراً إبستمولوجياً معتمداً؟ فها هو غوديل يقول لنا إن هناك حقائق لا يمكن الوصول إليها من مسلماتنا كلها، لا منطقنا الرياضي ولا علمنا الفيزيائي سيوصلنا إليها، إنها علم الغيب، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا باعتماد الوحي كمصدر إبستمولوجي، وإن عدم قدرة العلم على الوصول إلى هذه الحقائق ليس دليلاً على عدم صحتها، وإنما نتيجة منطقية لنظرية عدم الاكتمال. هنا، لا بد لي من أن أقر بصحة هذا، ولكن أيضاً، لا بد لي من أن أخرج أدواتي البوبرية من الحقيبة، وأبداً بالتشريح.

وما يلي هو رأيي الشخصي، لا أفرضه على أحد.

فلنفترض أن لدينا المسلمات التالية:

1- المنطق الرياضي مصدر معرفي صحيح

2- المشاهدات المتفق عليها مصدر معرفي صحيح

3- الوحي الإلهي الذي نزل على محمد مصدر معرفي صحيح (وأركز هنا على الوحي الإسلامي من باب خبرتي فيه لا أكثر)

بوبر سيطلب مني الآن أن أبحث عن المعضلات في مسلماتي هذه. وهنا سأجد معضلات عديدة تنبثق بشكل مباشر. سأذكر منها ثلاثاً فقط: 

أولها معضلة الشر، حيث أن المصدر الثالث يخبرني أن الإله لامنتهي الرحمة والخير والعلم والعدل والحكمة. لكن المصدر الثاني يخبرني أن الشر موجود بوفرة في هذا العالم، والمصدر الأول يخبرني أن وجود الشر يتناقض مع هذه الصفات الإلهية.

ثانيها معضلة نوح، حيث أن المصدر الثالث يخبرني أن الإله أغرق الدنيا في الطوفان، وأنه طلب من نوح أن يأخذ على سفينته زوجاً من كل صنف من الحيوانات. لكن المصدر الثاني يخبرني أن التنوع الحيواني الموجود حالياً كبير جداً، والمصدر الأول يخبرني أن هذا التنوع أكبر من أن يكون ناتجاً عن مجموعة من الحيوانات قادر على حملها مركب واحد.

ثالثها معضلة "الفتق"، فالمصدر الثالث يخبرني أن "أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما"، وأقرب ما يمكن استنتاجه من ذلك أن الأرض والسماء بذات العمر، وأنهما مسطحان متقابلان، كانا يوماً ملتصقين ثم تم فصلهما. لكن المصدرين الأول والثاني يخبرانني أن الأرض ليست مسطحة بل مفلطحة، وأن السماء ليست سطحاً، بل فراغاً، وأن الأرض جديدة نسبياً نسبة لعمر الكون.

هذه التناقضات (وغيرها) تجعل من الصعب الجمع بين المسلمات الثلاثة كمصادرمعرفية إبستمولوجية، وبوبر يلح علي أنه لا بد من حل هذه المعضلة. قد يقوم غيري بحل المعضلة عن طريق تعديل المسلمة الثالثة، بجعل بعض أجزائها مجازاً وبعضها الآخر إقراراً، لكن بالنسبة لي شخصياً، أرى هذا التعديل اعتباطياً، وأرى من الأفضل إسقاط هذه المسلمة، خصوصاً أن هذه المسلمة تشتمل أيضاً بطبيعتها على نوع من الابتزاز، فهي تأخذ نفسي رهينة، وتهددني بعذاب كلما ذاب جلدي أُبدِلت غيره لأذوق العذاب، في حال رفضت الأخذ بها كمسلمة. هذا النوع من الابتزاز يجعلني أستبعدها أكثر وأكثر، فالمسلّمة الصادقة لا تحتاج إلى تهديد.

ما ذكرته لا ينفي كل أنواع الوحي كمصدر إبستمولوجي، وإنما الوحي الإبراهيمي فقط. قد يكون هناك وحي ما في مكان ما لا أدري به، لا يحتوي على هذه المشكلات.

طبعاً، هذا يعني أنني قد خسرت بعضاً من القدرة التفسيرية، فأنا الآن لا أدري من أين جاء هذا الكون. لكن هذه هي معادلة غوديل، فإما أن تتخلى عن بعض القدرة التفسيرية كل حين وآخر، أو أن تقع في التناقضات. وأنا أفضل تحمل هذه الخسارة التفسيرية على الوقوع في التناقضات، لأن الخسارة التفسيرية ستعوض في المستقبل، أما خسارة المصداقية فلا تعوض.

Comments

Popular Posts