مراجعة كتاب "نسيج الواقع" لديفيد دويتش - الجزء 2: الميكانيك الكمي ولأكوان المتوازية
هذا المنشور هو الثاني في سلسلة مقالات أراجع فيها أفكار الفيلسوف والعالم الفيزيائي ديفيد دويتش، في كتابه "نسيج الواقع" The Fabric of Reality، سيحتوي المنشور على ملخص لأفكاره، تتخللها تعليقات مني. كل المنشورات ستكون تحت تاغ "نسيج الواقع"، لتسهيل إيجادها
---
اكتشاف الميكانيك الكمي في بداية القرن العشرين شكل أزمة في الوسط العلمي والفلسفي. حيث بدا لنا أن الجزيئات المتناهية في الصغر تتصرف بشكل يخالف ما اعتدنا عليه مع الجزيئات الأكبر، حيث أن الفيزيائيين كانوا قد اعتادوا على تقسيم الظواهر الفيزيائية إلى قسمين: جزيئات particles، وأمواج waves. الجزيئات هي الكتل المادية، كالكرة أو الطاولة أو جسم الإنسان، أما الأمواج فهي اضطرابات في وسط معين تنتقل عبر الفضاء أو عبر الجزيئات، كأمواج البحر، الأمواج الصوتية أو الأمواج الضوئية.
لكن في بداية القرن العشرين، تطورت تقنياتنا حتى اكتسبنا القدرة على التعامل مع جزيئات متناهية في الصغر، كالإلكترون الذي يصل قطره إلى 0.000000000000000001 متر تقريباً. هذه الجزيئات فتحت لنا عالماً معرفياً جديداً، فقد وجدنا أننا إذا أسقطنا إلكتروناً باتجاه حائط مثقوب فيه ثقبان، يبدو الإلكترون وكأنه مر من كليهما، لا من واحد منهما فقط، بل وإذا وضعنا حائطاً آخر بعد الحائط الأول لنرى أين سقط الإلكترون، نجده وكأنه في مروره من هذين الثقبين أصبح موجتين كأمواج البحر، فارتطمت هاتان الموجتان ببعضهما، وتغير موضع سقوطهما. فبدل أن نرى أن الإلكترون يسقط تماماً خلف أحد الثقبين، نجده يسقط في موضع آخر تماماً لا يمكن تفسيره إلا بأنه ارتطم بإلكتورنات أخرى أثناء سقوطه. يمكن أن نرى هذا في الرسم التوضيحي، حيث أننا إذا رمينا عدداً من الإلكترونات واحداً تلو الآخر (وتركنا بين كل رمية خمس دقائق لنضمن ألا تؤثر الإلكترونات على بعضها)، سنرى مسقط الإلكترونات على الحائط الخلفي بشكل غريب، فبدل أن نجد أن كل الإلكترونات سقطت خلف الثقبين، نجد أنها سقطت في أماكن مختلفة مشكلة ما يدعى بنمط تضارب interference pattern، لا يمكن تفسيره إلا إذا افترضنا أن كلاً من هذه الإلكترونات يرتطم بنفسه
يرتطم بنفسه.... يرتطم بنفسه.... وكيف يرتطم الشيء بنفسه؟؟ إذا كان هذا ما يدور في رأسك، فمرحباً بك في معضلة القرن العشرين.
سببت هذه المعضلة، مع مجموعة أخرى من المعضلات المتعلقة بميكانيك الكم، معارك في الوسط العلمي، وأخذاً ورداً لامنتهيين، حيث قررت مجموعة من العلماء، أهمهم نيلز بور Neils Bohr وفيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg (نعم، هايزنبرغ نفسه الذي استوحى والتر وايت منه اسمه في مسلسل بريكنغ باد) على ما يدعى بتأويل كوبنهاغن Copenhagen Interpretation، الذي يقول: "إن الجزيئات متناهية الصغر تتصرف وكأنها تحمل موجة من الاحتمالات، احتمالات وجودها في مكان معين، وترتطم هذه الاحتمالات ببعضها، لنرى هذه النتائج التي نراها"، لكن ما معنى هذا؟ ما معنى أن ترتطم "احتمالات" ببعضها، الأمور الحقيقية ترتطم، لكن الاحتمالات ترتطم؟ إذا رميت بكرة سلة إليك، فإن الكرة سترتطم فيك أو لا ترتطم، لكن ما معنى أن يرتطم احتمالها بك؟
الحقيقة، برأي ديفيد دويتش، كما برأي الكثيرين، أن تأويل كوبنهاغن لا معنى له. تأويل كوبنهاغن هو تأويل يقول لك: "ليس من الضروري أن نفهم ما يحصل، إليك بهذه المعادلات التي تصف حركة الجزيئات الصغيرة. لكن ما معنى هذه المعادلات؟ لا يهم، ما يهم أن هذه المعادلات تحمل تنبؤات صحيحة"، لكن بالنسبة لدويتش كما ذكرنا في المقال السابق، لا يكفي لنظرية علمية أن تحمل تنبؤات، بل لا بد كل البد أن تحمل أيضاً تفسيرات. و"موجة الاحتمالات" هذه التي يتحدثون عنها هي مجرد هروب من التفسير، فكيف ترتطم الاحتمالات؟ كيف يرتطم ما لم يتحقق؟؟
---
لحسن الحظ، هناك تأويلات أخرى لهذه المعضلة، وهي تأويلات عديدة يحمل كل منها أبعاداً فلسفية عميقة عن حقيقة العالم الذي نعيش فيه. دويتش لا يذكرها في كتابه، لكنه يذكر واحدة فقط لأنه يراها الأبسط: "تأويل العوالم المتعددة (أو الأكوان المتوازية) Many-Worlds Interpretation" الذي أتى به العالم هيو إيفيريت Hugh Everett في خمسينيات القرن الماضي، فماذا يقول هذا التأويل؟ يقول التأويل إن هناك عدداً لانهائياً من الأكوان، وهذه الأكوان تبدأ متماثلة، ثم تتباعد باستمرار عن بعضها البعض حتى تصبح مختلفة تماماً. الأكوان التي لا زالت قريبة من بعضها، تتفاعل وتتداخل وترتطم مع بعضها، ثم تستمر بالتباعد حتى يصبح التداخل مستحيلاً. هذا الارتطام طفيف جداً، ولا يمكن ملاحظته إلا في الجزيئات متناهية الصغر، لكنه في الحقيقة ينطبق على كل شيء، وما نراه في تجربتنا أعلاه، مما يبدو وكأن الاكترون يرتطم بإلكترونات أخرى، هو فعلاً ارتطام حقيقي بين عوالم متوازية، وليس مجرد "ارتطام احتمالات"، فهذه الإلكترونات المنتمية إلى عوالم مختلفة ترتطم مع بعضها، وفي كل من العوالم المتوازية، يسقط الإلكترون في مكان مختلف نتيجة هذا الاصطدام. لتبسيط هذا، فلنتخيل أننا، أنا وأنت، نقف قبالة بعضنا البعض، ونرمي كرتي سلة باتجاه بعضنا، فتصطدمان وتذهب واحدة منهما إلى اليمين، والأخرى إلى اليسار. الآن، فلنتخيل أن كلاً منا ينتمي إلى عالم موازٍ، عندها، فأنا سأرى كرتي اتجهت فجأة نحو اليمين، وأنت سترى كرتك اتجهت فجأة نحو اليسار. لن يرى أي منا كرة الآخر، لكنه سيرى نتيجة اصطدامها بكرة الآخر.
لكن، من أين أتينا بكل هذا؟ عوالم موازية لامنتهية، فقط لتفسير ظاهرة بسيطة جداً، أن الإلكترون يبدو وكأنه يرتطم بأمور ما؟ أليس هذا أمراً مبالغاً به؟ ولماذا يعد دويتش هذا التفسير بهذه الأهمية؟ هذا موضوع الجزء القادم
Comments
Post a Comment