مراجعة كتاب "نسيج الواقع" لديفيد دويتش - الجزء 1

 هذا المنشور هو الأول في سلسلة مقالات أراجع فيها أفكار الفيلسوف والعالم الفيزيائي ديفيد دويتش، في كتابه "نسيج الواقع" The Fabric of Reality، سيحتوي المنشور على ملخص لأفكاره، تتخللها تعليقات مني. كل المنشورات ستكون تحت تاغ "نسيج الواقع"، لتسهيل إيجادها

---

سمعت أول ما سمعت عن ديفيد دويتش David Deutsch عندما كنت أبحث في موضوع الحوسبة الكمية Quantum Computing، وهو مجال جديد ورائع يحاول استخدام ما تعلمناه عن الميكانيك الكمي Quantum Mechanics لتصميم حواسيب تعد نظرياً أسرع حواسيب ممكنة التصميم. وكان ديفيد دويتش أول من صمم خوارزمية قابلة للعمل على هذه الحواسيب.

عندما قرأت عما فعله، أعجبت كثيراً، وذهبت إلى جوجل لأبحث عنه، فلما وجدته عالماً فيزيائياً امتعضت: "لماذا يتعدى هذا الفيزيائي على مصلحتنا نحن الحوسبيين؟"، ثم بحثت عن بعض مقابلاته، فوجدته يقول: "كل شيء في الكون هو حسابات، والحواسب الكمية تمكنك من استغلال الأكوان المتوازية Multiverse لتؤدي حساباتك..."، كل شيء حسابات؟ الأكوان المتوازية؟ عمّ يتحدث؟ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين!

فكان لا بد لي من أن أتعرف على فكره، وكان أفضل ممثل لفكره كتابه: نسيج الواقع The Fabric Of Reality، بعد قراءتي لهذا الكتاب، وتعرفي على ما قدمه لعلم الحوسبة الكمية، ارتقى ديفيد دويتش إلى أن يكون واحداً من أبطالي الشخصيين، وأرجو أن تقنعك هذه المراجعة بإضافته إلى قائمة أبطالك أيضاً.


يبدأ دويتش كتاب نسيج الواقع بطرح سؤال مهم: "هل يمكن لشخص واحد أن يفهم كل ما هو مفهوم؟" فقد طرح هذا السؤال على والده حين كان صغيراً، فأجابه والده أن هذا كان ممكناً في عصر أرسطو، حين كانت المعرفة الإنسانية محدودة. أما اليوم، فهذا أشبه بالمستحيل. لم يعجب هذا الجواب ديفيد الصغير، الذي كبر وأصبح فيلسوفاً، ليجيب والده "بل يمكن حصول ذلك، في حال وجدنا النظرية الموحدة، النظرية الكلية The Theory of Everything، فيمكن لمن يفهمها حينها أن يفهم كل شيء" فليس المهم فعلاً هو معرفة كل معلومة علمية، وإنما معرفة المبادئ والأساليب التي تقود إلى هذه المعلومات. ووضع هذه المبادئ كلها في نظرية واحدة، هي النظرية الكلية. لكن، كيف يمكننا الوصول إلى هذه النظرية؟ ومن أين؟

أولاً، يؤكد دويتش أننا إذا أردنا أن نصل إلى النظرية الكلية، فيجب أن نبحث في المكان الصحيح، ويجب أن نلتزم بقواعد إبستمولوجية معينة لنتمكن من ذلك:

فأولاً، لا بد أن نتفق أن الغاية الرئيسية من العلم، هي الوصول إلى التفسيرات explanations، وليس إلى التنبؤات predictions. فالتنبؤات بالنسبة له هي وسيلة وليست غاية. هي وسيلة نستعملها لتخبرنا بمدى صحة تفسير معين. لكن التفسير هو الأصل والأساس. لتوضيح ذلك، يضرب دويتش مثال النظرية النسبية، حيث أن تنبؤاتها لا تختلف كثيراً عن تنبؤات نظرية الميكانيك الكلاسيكية التي سبقتها، فجل الفرق بين تنبؤاتهما هو بضعة سنتيمترات نراها على الصفيحة الضوئية. لكنهما يقدمان تفسيرين مختلفين تماماً للعالم من حولنا، فتفسير نيوتن يرى أن الجاذبية هي مجرد قوة في الطبيعة تجذب الأجسام نحو بعضها البعض، أما تفسير آينشتاين فيفسر الجاذبية بأن الفضاء نفسه ينحني عندما توجد فيه أجسام ثقيلة، فيؤدي ذلك إلى اقترابها من بعضها. نظرتان مختلفتان للعالم من حولنا، يتغير عن طريقهما رؤيتنا للعالم كله، على الرغم من أن تنبؤاتهما لا يختلفان إلا النذر اليسير، ونحن نعلم اليوم أنا النسبية هي الصحيحة، وأن الفضاء فعلاً ينحني. إذاً، فما يهمنا فعلاً هو القدرة التفسيرية، وليس التنبؤية. وسيعود دويتش إلى هذا الموضوع بحرارة فيما بعد، لينقد الفهم الحالي لنظرية الميكانيك الكمي، المعروف بتأويل كوبنهاغن Copenhagen Interpretation، والذي يحدها بالتنبؤات، ويرفض التأويل الأصلح لها، وهو تأويل الأكوان المتوازية Many Worlds Interpretation، الذي يقدم تفسيرات، وليس فقط تنبؤات.

ثانياً، يرفض دويتش كل الرفض أن تكون النظرية الكلية هي نظرية اختزالية reductive تقتصر على توحيد القوى الطبيعية الأساسية (الجاذبية، الكهرومغناطيسية، والنووية) مع نظرية الكم والنسبية. فعلى الرغم من أنه يوافق على أنّ نظرية كهذه قادرة بالفعل على التنبؤ بكل شيء في الكون، لكنها غير قادرة على تفسيره. والتفسير عنده أهم من التنبؤ كما ذكرنا. يذكر دويتش أن نظرية كهذه قد تخبرنا تماماً كيف وصلت ذرة من الألمنيوم إلى مكان معين، لكنها لن تفسر لنا سبب وجود هذه الذرة في هذا المكان، فتفسير وجودها في الحقيقة أنها تقع على أنف تمثال وينستون تشرشل في لندن، وتفسير التمثال أنه بني تكريماً له على جهوده في الحرب العالمية الثانية، وتفسير الحرب... إلخ. إذاً، لا بد إذا أردنا أن نفهم سبب وصول هذه الذرة إلى هذا المكان، أن نفهم قواعد تفوق قدرة النظرية الاختزالية. وهنا يركز دويتش على مفهوم الانبثاق emergence، حيث يعتقد دويتش أن هناك قوانين جديدة "تنبثق" كلما ارتفعنا إلى درجة جديدة من التعقيد، وهذه القوانين لا يمكن تفسيرها ابتداء من قوانين أبسط وأكثر اختزالاً، وإنما هي قوانين جديدة كلياً. في هذا، أرى أن دويتش يتفق مع فلاسفة المادة الذين يعتقدون بالانبثاق القوي strong emergence، فعلى الرغم من أنه لم يذكر هذا المصطلح في كتابه، إلا أن أفكاره تعكس اقتناعه بهذا. حيث يصنف بعض الفلاسفة الانبثاق إلى نوعين: قوي وضعيف، فالضعيف هو الانبثاق الذي يمكن تفسيره ابتداء من أمور أبسط منه، ونستعمله بشكل أساسي لتسهيل التعامل مع الأمور، دون أن نعتبره قانوناً أساسياً. أما الانبثاق القوي فهو الذي لا يمكن تفسيره مما هو أبسط منه، وحينها نعتبره قانوناً أساسياً. لم يذكر دويتش هذا الموضوع في كتابه، لذا لا يمكنني الجزم إن كان يعتقد بالانبثاق القوي، لكن حديثه المستمر عن الانبثاق، وتركيزه على نظرية غوديل لعدم الاكتمال Godel's Incompleteness Theory (سنفصلها في منشور لاحق)، يجعلني أظن أنه يدعم الانبثاق القوي.

ثالثاً، يعتقد دويتش أننا من المستحيل أن نصل إلى نظرية كلية نهائية صحيحة مئة بالمئة، لأن نظرية غوديل لعدم الاكتمال تقول إنه من المستحيل على مجموعة أساسية من المسلمات أن تصل إلى استنتاج لكل شيء، وأنه سيكون هناك دائماً مسلمات جديدة علينا إضافتها إذا أردنا تفسير أمور جديدة، وأن هذه عملية لانهائية. لذا فإن دويتش يرى أننا حتى بعد وصولنا للنظرية الكلية، سيكون علينا أن نتابع العمل لتحسينها وتوسعتها، إلى المالانهاية.

إذاً، فإن دويتش يرى أن النظرية الكلية ستكون نظرية موحدة قادرة على تفسير كل ما وصلنا إلى تفسيره، وستشتمل على مجموعة مسلمات غير اختزالية، تنتمي إلى درجات مختلفة من التعقيد، وأن النظرية الكلية الحالية التي يمكننا الوصول إليها يجب أن تشتمل على أربع مسلمات (أو ضفائر strands كما يدعوها): "تأويل الأكوان المتوازية لميكانيك الكم"، "مفهوم كارل بوبر الإبستمولوجي"، "نظرية التطور"، و"نظرية الحوسبة". وهو بالطبع يرى أن هذه ليست نظرية نهائية، وأننا لا بد وأن نقوم بتعديلها بشكل مستمر، وتحسينها، وإضافة مسلمات جديدة عليها، إلخ.

في المنشورات القادمة، سأتوسع حول هذه الضفائر واحدة تلو الأخرى

Comments

Popular Posts