لماذا يرفض المؤمنون نظرية التطور؟
تشكل نظرية التطور أحد أهم خطوط التماس بين المؤمنين والملحدين في أيامنا هذه. لكن لماذا؟ لماذا يصر الملحدون على اتخاذها دليلاً على الإلحاد؟ بينما يصر المؤمنون على رفضها رفضاً لا جدال فيه؟ فيما يلي سأركز على السؤال الثاني، ومنه أستنتج الجواب للسؤال الأول
شجرة الحياة، غوستاف كليمت
لماذا يرفض المؤمنون نظرية التطور؟
هل لأنها مجرد "نظرية"؟ هذا ادعاء غريب، نسمعه كثيراً. ولكن أليست نظرية "فيثاغورث" في علم المثلثات نظرية؟ لماذا لا نرى أحداً يشكك بها؟ أم ليست نظرية النسبية في علم الفيزياء نظرية؟ أين التشكيك؟ انتقاد نظرية التطور بأنها مجرد نظرية هو مجرد خلط لغوي بين النظرية theory والفرضية hypothesis، أو ربما هو فصل بين النظريات الرياضية لقطعية بنائها على الاستدلال deduction، بينما النظريات العلمية مبنية على الاستقراء induction. إن كان هذا فعلاً هو سبب الاعتراض فأقول للمعترض إياك أن تركب سيارتك، تدير حاسبك، أو تجلس على كرسيك. فكل هؤلاء ما بنيوا إلا على الاستقراء. لكن الحقيقة أن هذا ليس هو سبب الرفض الحقيقي. بل هو مجرد عرض من الأعراض.
فلمَ الرفض إذاً؟ هل لأنها تنافي أساسيات المنطق؟ فلننظر إلى الحيوانات من حولنا، ألا نرى أنها تشكل ما يشبه الشجرة في تشابهها واختلافها؟ ألا نرى التشابه بين الكلب والذئب، بين القط والأسد، بين الدلفين والحوت؟ ألا نرى العوائل الأكبر كالثديات والزواحف وغيرها؟ إذا رأينا شجرة كمثل هذه الشجرة في أي مكان آخر لقلنا إنها تطورت عن بعضها. فنحن نؤمن بتطور اللغات عن بعضها بناء على مثل هذه التشابهات، ونؤمن بتطور الطبخات عن بعضها بناء على مثل هذه التشابهات، بل ونؤمن بتطور الأفكار عن بعضها بناء على مثل هذه التشابهات. نؤمن بتطور أي شيء إذا رأينا أن تشابهاته تأخذ شكلاً شجرياً كهذا الشكل. إلا الكائنات... بل ونزيد هذا الرفض، فنؤمن أن الحمض النووي DNA هو الذي يعطي الكائن شكله وصفاته، ونؤمن أن الحمض النووي قابل للتغير والتحول. لكننا نرفض أن نأخذ هذا الإيمان إلى مستنتجه المنطقي، لسبب ما...
ما السبب يا ترى؟ هل السبب هو أننا لم نرَ هذا الأمر في حياتنا؟ هل سنصدق التطور إذا رأيناه أمامنا؟ لكننا نصدق استنتاجات علمية عديدة لا نراها أمامنا أبداً. بل ولا نعترض على العديد من الاستنتاجات العلمية مع أنها تتنافى مع حدسنا. فلا نرى اعتراضات على أن الأرض تدور حول الشمس، رغم أننا نرى الشمس تتحرك والأرض ثابتة. ولا اعتراضات على نظرية النسبية، مع أنها تقول أني سأشيخ سنة واحدة، بينما تشيخ أنت خمسين سنة، إذا كنت أتحرك بسرعة واتجاه معينين. بل ولا نرى هذه الاعتراضات حتى على نظرية الميكانيك الكمي التي تقول إن الإلكترون يوجد في مكانين معاً بآن واحد، فإذا جربت تحديد موقعه، وجدته في واحد من هذين المكانين، لا في كليهما! إذا كان الاعتراض على التطور فعلاً من باب أننا لا نراه بأعيننا، فأين نحن من الاعتراض على كل هذه النظريات الأخرى؟ كل هذه النظريات الأخرى لها أدلة عديدة، وإن كانت غير مباشرة. والتطور لا يقل عن أي منها ثبوتاً، بل ويزيدها بأنواع متعددة من الأدلة غير المحصورة.
فما سبب الرفض إذاً؟ أهي الصدفة؟ "لا يمكن للصدفة أن تنتج أجهزة معقدة كتلك التي نراها اليوم"؟ وهل تظن هذا غائباً عن علماء التطور؟ ألا تدري أن علماء التطور حين يبحثون عن كيفية تطور جهاز معين في الخلية أو في جسم الحيوان، يلغون الاحتمالات التي تتطلب صدفة هائلة؟ ألا تدري أنهم لا يسمحون في نظريتهم لأي تفسير غير تدرجي؟ إن نظرية التطور قائمة ليس فقط على الصدفة، بل على الصدفة مقرونة بالتدرج، مع الانتقاء الطبيعي. ما من عالم تطوري يدعي مثلاً أن العيون ظهرت هكذا فجأة من "لاعيون"، بل يبحثون ويحللون وينظرون حتى يجدوا تفسيراً منطقياً تدرجياً انتقائياً يوصلنا إلى العيون التي نراها اليوم. ثم يراجعون نتائجهم، فينتقد بعضهم استنتاجات الآخر، ويداورون الكرّة حتى يصلوا في النهاية إلى استنتاج مقنع متطابق مع الأدلة والمنطق، فيتفقون عليه. فالصدفة، مقرونةً بالتدرج والانتقاء، ومكررةً على مليارات السنين تأتي في النهاية إلى أجهزة معقدة. وإن ما زلت مصراً على أن الصدفة المقرونة بالتدرج والانتقاء لا يمكن أن تقود إلى شيء معقد، فربما يمكنك القراءة عن "الخوارزميات الجينية"، والتي هي برامج حاسوبية، تقوم بعمل تغييرات عشوائية في تصميمها، وتختار بذاتها التصميم الأنقى، ثم تعود إلى التغييرات، حتى تنتج برنامجاً مفيداً يؤدي المطلوب بشكل كامل.
إذا قرأت كل هذا، وما زلت رافضاً لنظرية التطور، فلدي خبر مهم لك: أنت لا ترفض التطور لسبب منطقي أو علمي. أنت ترفضه حصراً لسبب ديني. لأنه يمس بمقدساتك.
إن السبب الرئيسي الذي يدفع المؤمنين لرفض نظرية التطور، يتجلى في نكتة سمعتها من شيخي في الجامع (أيام ما ارتدت الجوامع)، عندما سؤل عن نظرية التطور فقال: "إذا كان جد داروين قرداً، فأنا جدي آدم"
نعم. مهما حاول إياد القنيبي وأمثاله تصوير رفضهم لنظرية التطور على أنه رفض مبني على العلم والمنطق (مع انعدام كليهما في فيديوهاته)، فإن الجذر الحقيقي لهذا الرفض هو المس بالمقدسات. لا يصح لأحد أن يمس بأنّ ابن آدم مصطفى، وأنّ آدم خلق من طين. جل ما يفعله القنيبي وغيره هو إخفاء هذا كله في جبل من الكلام الذي يبدو علمياً، والذي ينهار عند أبسط تحقيق علمي.
الأمر بغاية البساطة، وإنه من المؤسف ضياع كل هذا الوقت في النقاش على ما عرض من التفسيرات العلمية، عندما يكون الاختلاف جذرياً قابعاً في مكان آخر. لماذا نناقش الأدلة العلمية إن كنت لن تسمح لأي دليل علمي أن يمس بمقدساتك؟
أتدري الآن لماذا يخرج الناس من "دين الله" أفواجاً؟ لأنهم يكتشفون يوماً بعد آخر أن هذا الدين متباين عن الحق. وقد اتخذ المدافعون عن الدين تيارين رئيسيين في هذا المجال. فأولهما هو تيار القنيبي آنف الذكر، الذي يسعى جاهداً إلى النخر في نظرية التطور وإظهارها على أنها مجرد خرافات. هذا التيار في انحسار مستمر، فالعاقلون المفكرون يميزون الحقيقة من الخرافة، ويدركون يوماً بعد يوم أن ما من تخريفات إلا تلك الخارجة من فم القنيبي.
وأما التيار الآخر فيتمثل بأحمد خيري العمري، الذي أدرك حقيقة نظرية التطور، وثبات براهينها وأدلتها. فقام بإيجاد تفسير لها يتوافق مع الدين الإسلامي. حيث قال إن التطور حق، وهو الوسيلة التي قرر الخالق اتباعها لخلق الإنسان، وأن التدرج في الخلق من سنن الإله، وأن وجود آدم في الجنة كان بروحه لا بجسده. بالإضافة إلى تفسيرات أخرى يمكن قراءتها في كتبه ومقالاته.
ومع أن هذا التيار يفوق الآخر تقدماً وعقلانية بأشواط عديدة، إلا أنه حافظ على المقدسات، فقد ادعى أن تشكل الخلية الأولى على كوكب الأرض لا يمكن أن يكون إلا بتدبير دقيق من الخالق، لأن تشكل الخلية من اللاخلية أمر شديد الصعوبة، وادعى أن الإنسان وإن كان قد نشأ عن طريق التطور، فهو مصطفى عن باقي الكائنات.
وهذا الأمر جميل، وليس لدينا دليل على بطلانه. لكنه في جذره مجرد رمي للكرة إلى ملعب المستقبل، فماذا تفعل لو ظهرت فيما بعد نظرية ثابتة ذات دلائل تنسف كل هذه الادعاءات؟ أعيد وأكرر، العلماء ليسوا أغبياء، وهم مصرون على مبدأ التدرج، ويعملون جاهدين على إيجاد سلسلة تدرجية منطقية لا تتطلب معجزة لتفسير ظهور الخلية الأولى، بل وهناك نظريات عديدة ترجح أن تشكل الحياة ليس بالصعوبة التي نفترضها، وأن وجود الحياة على كواكب أخرى أمر لا محالة منه. وبالمثل، فإن علم النفس التطوري يغلق يوماً بعد يوم الكوة التي تفصلنا عن فهم الحقيقة النفسية للإنسان.
هذه النظريات لا تحمل بعد إثباتات بقوة إثباتات نظرية التطور، لكن ماذا يفعل العمري إن أثبتت هذه النظريات؟ هل يصبح قنيبياً آخر؟ أم يجد تفسيراً جديداً لصحة الدين؟ ماذا يفعل إن وجدنا كائنات على كواكب أخرى؟ ماذا يفعل إن كانت هذه الكائنات أكثر تطوراً من الإنسان؟ أتبقى الأرض فريدة بين الكواكب، والإنسان مصطفى بين الكائنات؟
تحريك المقدسات من مكان لآخر ليس حلاً، بل هو مجرد تأجيل للصدام. والعلم لا يأبه بالمقدسات، بل يأتي عليها واحدة بعد الأخرى.
لهذا السبب يقرن الملحدون بين نظرية التطور والإلحاد. فنظرية التطور بذاتها لا تدل على غياب الإله، ولكنها تمثيل لصراع أزلي بين العلم والدين. فكل منهما يدرك أن هناك فراغات في معرفتنا عن الكون الذي نعيش فيه. فأما الدين فيملأ هذه الفراغات بقصص الخلق والمعجزات والإله وغيرها، وأما العلم فيأبى إلا أن يجد تفسيراً منطقياً مقنعاً لها. وحين تصطدم هذه التفسيرات مع بعضها، نرى هذه الحرب الطاحنة متعددة الأشكال بين متبعي هذا الدين الرافضين لأي تفسير لا يتفق معه، وبين العلم الفج القح الذي لا يقيم وزناً إلا لما اتفق مع الأدلة المنطقية.
Comments
Post a Comment