مقومات الأغنية الخالدة
هذا المقال ليس تحليلاً علمياً دقيقاً أو موضوعياً، وإنما هو محاولة لعقلنة حبي اللاعقلاني لهاتين الأغنيتين، لذا تحملوني واستمتعوا بهذا التخبيص:
ما الذي يجعل أغنية خالدة دون غيرها؟ أهو الإيقاع؟ الصوت؟ الكلمات؟ هو ليس أياً من هذه العوامل وحدها، وإنما التفاعل بين هذه العوامل ما يجعل الكل أكبر من مجموع أجزائه، وللتوضيح، أشارك معكم اثنتين من أغانيي المفضلة:
أداء ماجدة الرومي لأغنية التوبة: https://www.youtube.com/watch?v=ppblb42FrmI
أغنية "سوف أنجو" ل"غلوريا غاينور: https://www.youtube.com/watch?v=ARt9HV9T0w8
الأغنيتان مختلفتان بكل ما يمكن أن تختلف أغنيتان عن بعضهما: الصوت، الأسلوب، اللغة، المغزى... لكن يجمعهما أمر واحد، هو الخلود. وقد تحقق هذا الخلود، برأيي، للأسباب التالية:
1- الإيقاع المناسب:
أغنية التوبة هي أغنية شكوى زائفة، فهي تتبع الأسلوب الشكوي المعروف في الأغاني العربية، حيث يشكو المغني صبابته لأحد والديه (يما، يابا، يابوي...)، لكن هذه الشكوى زائفة: "أنا كل ما قول التوبة يا بوي، ترميني المقادير يا عيني"، وكأن شخصاً ينظر إليك بعينين تملؤهما الشقاوة ويقول: "ما باليد من حيلة، كل ما جربت الابتعاد عنه رمتني الأقدار بين يديه"، لذلك، على الرغم من أنها شكوى، إلا أن الإيقاع لم يكن حزيناً بطيئاً، بل كان سعيداً راقصاً، قوياً شيقاً.
أما أغنية سوف أنجو، فهي امرأة تروي قصتها في تحدٍّ وقوة، لذا تجد الإيقاع يتراجع في بعض الأحيان ليعطيها الفرصة لتروي لنا القصة، ثم يعلو في لحظات انتصارها حتى يملأ المستمع بنشوة النصر والتحدي.
2- الصوت المناسب:
لم يكن لأحد أن يغني "سوف أنجو" كما غنتها غلوريا، فلغلوريا صوت قوي، صوت امرأة خانها عالمها ومجتمعها وأقرب أحبائها، وقاست صعوبات الحياة بشتى أشكالها، فخرجت منها منتصرة ومدمَّرة في الوقت ذاته.
وأما ماجدة، فقد غلبت عبد الحليم حافظ في موضع واحد فقط لا غير، هو هذه الأغنية. حيث غناها العندليب الأسمر قبلها، لكن صوته بطبيعته يغلب عليه الحزن، بما لا يناسب إيقاع هذه الأغنية وشكواها الزائف، فجاءت ماجدة لتغنيها بصوت يبدو كأنه يتظاهر بالحزن وهو في الحقيقة مفرط في السعادة.
3- الكلمات المناسبة:
كلمات أغنية التوبة تتناسب تماماً مع شكواها الزائفة، حيث يتظاهر المغني بأنه ليس فاعلاً، بل مفعولاً به: "ترميني المقادير"، "وحشاني عيونو السود"، "مدوبني الحنين"، "دبلت فيه الأماني"، وبالتالي فهو ما له أن يفعل شيئاً إلا أن يترك الأقدار لتجري به، بينما يتراقص هو على أنغامها.
أما أغنية "سوف أنجو"، فهي بالعكس تماماً، أغنية تنم كلماتها عن التحدي والبأس والدعابات القاسية. "ها قد عدتَ من رحلتك إلى الفضاء!"، "كان يجب عليّ أن أغير قفل البيت لأمنعك من الدخول"، "أظننت أنني سأنهار؟ أم ظننت أني سأستلقي على الأرض وأموت؟ لا، لست من هذا النوع. سأنجو ما دمت أعرف معنى الحب"
----
إذاً هذه هي الخلطة السحرية! الأغنية الخالدة هي تلك التي تتفاعل أجزاؤها المختلفة فتنتج ما لا يمكن إنتاجه بكل جزء على حدى. أغنية "سوف تنجو" عبر العقود.
Comments
Post a Comment