القواعد البوبرية، لذي النفس العلمية
هدف البوست التالي التعريف ببعض المصطلحات المستخدمة في مجال فلسفة العلوم The Philosophy of Science، واستخدام هذه المصطلحات لمحاكمة نظرية التطور ونظرية الخلق، واستعراض أيهما أقرب إلى الحقيقة.
في الماضي، كان أغلب الفلاسفة يرون أن العلم التجريبي مبني تماماً على الاستقراء Induction، والاستقراء هو التعميم، أي أنك تقوم بجمع المشاهدات التي رأيتها، ثم تتخذ قاعدة عامة مبنية على هذا الأساس. فمثلاً، إذا كان كل الإوز الذي رأيته من قبل أبيض اللون، تقوم بتعميم هذا وتقول "كل الإوز أبيض اللون". لكن هذا مشكلة، فإن النظرية العلمية هذه ستنكسر ببساطة في حال رأيت إوزة سوداء، وبالتالي، فإن الاستقراء لا يمكن التعويل عليه في البحث عن الحقيقة المطلقة، لأنه مبني فقط على مشاهداتنا المحدودة. وبالتالي، فوظيفة العلم التجريبي محدودة حصراً في وصف المشاهدات، لا أكثر.
لكن هذه الرؤية لم تطل طويلاً، ففي بداية القرن العشرين أتى فيلسوف قام بجذ هذه النظرة من جذورها. وأعاد تعريف العلم التجريبي على أنه عملية حل معضلات problem solving، تهدف إلى التفسير explanation، لا التعميم generalization، فهدف العلم ليس أن يقول: "كل الإوز أبيض"، وإنما أن يعلل لمَ كل الإوز أبيض، فقد يعلل العلم ذلك بأن هناك مورثاً معيناً في الإوز يجعله أبيض اللون، وفي حال وجود تحور في هذا المورث فقد نجد إوزاً بألوان أخرى. وبالتالي، قد نجد تفسيراً علمياً يخبرنا بظواهر لم نشاهدها من قبل، وهذا قد حصل بالفعل عندما اكتشفنا الثقوب السوداء، التي تم التنبؤ بها بناء على نظرية النسبية قبل أن نشاهدها، ثم بحثنا عنها ووجدناها فعلاً! إذاً بالنسبة لبوبر هدف العلم هو التفسير، أما أسلوب العلم، فيستند بشكل رئيسي على مبدأين: الدحض التجريبي empirical falsification، ونصل أوكام Occam's Razor.
لشرح هذه الفكرة، سأعرض عليك مجموعة تفسيرات علمية لوجود الكائنات الحية على كوكب الأرض:
تفسير 1: الكائنات خلقت على الأرض كلها دفعة واحدة قبل 6000 سنة
تفسير 2: الكائنات خلقت على الأرض كلها دفعة واحدة، قبل زمن غير معروف
تفسير 3: الكائنات خلقت على الأرض واحدة بعد الأخرى، فخلقت المخلوقات الأبسط بداية، ثم المخلوقات الأكثر تعقيداً، وهكذا
تفسير 4: الكائنات تطورت من بعضها البعض، باستثناء الإنسان الذي خلق منفرداً عن غيره
تفسير 5: الكائنات تطورت من بعضها البعض، بما فيها الإنسان، إلا أن عقل الإنسان خلق بعملية مختلفة
تفسير 6: الكائنات تطورت من بعضها البعض
---
الآن، فلنبدأ بالمحاكمة!
السؤال الأول والأهم، هل توجد تفسيرات أخرى؟ طبعاً توجد تفسيرات أخرى! هناك عدد لا منتهٍ من التفسيرات. مثلاً، "الكائنات تطورت من بعضها البعض، إلا الإنسان والكانغرو". لماذا لم أذكر هذا التفسير فوق، ولماذا لم أذكر أياً من العدد الهائل من التفسيرات الأخرى، مثل "إلا الإنسان والخفاش وفرس البحر" أو "إلا الصرصار"، إلخ؟ هنا يأتي المبدأ العلمي الأول، وهو أن الهدف الرئيسي من الفرضيات العلمية هو حل المعضلات و إيجاد التفسيرات. فما الغاية من فرضية "إلا الإنسان والكانغرو"؟ ما المعضلة التي تجرب حلها؟ هل لاحظنا شيئاً مميزاً في الكانغرو يجعلنا نرغب في طرح هذه الفرضية؟ أي فرضية علمية يتم طرحها يجب أن تكون إجابة لتساؤل معين، لمعضلة معينة. أما الفرضيات التي تقدم تعقيدات من دون مساهمة في حل أي معضلة، يمكن تجاهلها تماماً.
إذاً، يبقى لدينا الآن ست فرضيات متنافسة. كيف نقرر أيها الأفضل؟ هل نبدأ بجمع الأدلة التي تدعم كلاً منها؟ أبداً! في العلم، يمنع عليك أن تبحث عن أدلة تدعم فرضيتك. نعم! عليك في الحقيقة أن تبحث عن أدلة تدحض فرضيتك. التجربة experiment في العلم، هو أمر تقوم به يكون له واحد من جوابين، أولهما يدحض فرضيتك، والآخر... لا يدحضها. انتبه إلى أني لا أقول يثبت فرضيتك، فما من تجربة قادرة على إثبات الفرضية، لكن الفرضية التي مر عليها الكثير من التجارب دون أن تُدحض تعد فرضية موثوقة، والفرضية الموثوقة يصبح اسمها نظرية. هذا ما يعرف بمبدأ الدحض التجريبي empirical falsification.
وهنا لا بد من التركيز على أمرين:
أولاً، لا تعد التجربة صالحة إلا إذا كانت قادرة على أن تعطي جوابين، أحدهما يدحض الفرضية. أما إذا كان كلاهما يدعم الفرضية، فلا فائدة من هذه التجربة. مثلاً، إذا كانت فرضيتك أن "ألعاب الفيديو العنيفة تؤدي إلى العنف إلا إذا كان الشخص ذا بعد روحاني"، فإذا طلبت منك القيام بتجربة عن الموضوع، كلما أتيتك بشخص يلعب الألعاب ويقوم بالعنف، وجدته دليلاً على فرضيتك، وكلما أتيتك بمن لا يقوم بالعنف وصفته بأنه روحاني، واعتبرته دليلاً عليها أيضاً. فنظريتك في هذه الحالة ليست علمية، بل هي علم زائف pseudoscience.
ثانياً، صحيح أن التجارب لا تثبت الفرضية بشكل نهائي، ولكن كلما اجتازت الفرضية تجربة كلما تيقنّا أنها أقرب للصحة. وبالتالي حين يأتي يوم تفشل فيه هذه النظرية في اجتياز تجربة معينة، فإن هذا لا ينزلها إلى مرتبة النظريات التي غلبتها سابقاً، فهي أقرب منهم إلى الصحة بكثير، وهي ما زالت تعد صحيحة بالنسبة لكل التجارب التي مضت. فمثلاً، نظرية نيوتن في حركة الأجسام، مع أننا نعلم اليوم أنها خاطئة، إلا أنها أقرب إلى الصحة من كل النظريات الأخرى التي سبقتها، بل وما زلنا نستعملها حتى الآن في العديد من المجالات الهندسية. إذاً، فحين نكتشف خطأ نظرية معينة، فإننا لا نعود إلى الصفر. وكما سنرى في هذه المقالة، إذا اكتشفنا خطأ نظرية التطور، لا نعود إلى الصفر، إلى نظرية الخلق، لأننا نعلم أنها أقرب بكثير إلى الحقيقة من نظرية الخلق. بل نعود إلى البحث عن نظرية أخرى تصحح الأخطاء الموجودة، دون أن تعود إلى الأخطاء القديمة. وهذا قد حصل بالفعل في نظرية التطور، فهي اليوم مختلفة كثيراً عما كانت عليه يوم اكتشفها داروين. (للأسف، تحسين النظرية وتصحيحها يسميه مدّعي العلم إياد القنيبي بالتخبط)
حسناً، فلنبدأ بإجراء التجارب، وكل ما أجرينا تجربة نرى أي من الفرضيات تصمد، وأيها تدحض:
تجربة 1: وجدنا دلائل مؤكدة على وجود حياة على كوكب الأرض تعود على الأقل إلى 3 مليارات ونصف سنة.
النتيجة: كل الفرضيات تصمد، إلا رقم 1.
تجربة 2: وجدنا أن ظروف الحياة على الأرض لم تكن مناسبة أبداً للعديد من المخلوقات التي تعيش اليوم. مثلاً نسبة الأوكسجين كانت مختلفة جداً، درجة حرارة الأرض كانت مختلفة، إلخ.
النتيجة: كل الفرضيات الباقية تصمد، إلا رقم 2. لأن التجربة رقم 1 تدل أن الحياة وجدت منذ مليارات السنين، ورقم 2 تدل أن معظم الكائنات الحية اليوم ما كانت لتصمد.
تجربة 3: وجدنا أن الكائنات الحية كلها تتشابه في تركيبها، فكلها تسير حسب ما يعرف بالعقيدة المركزية في علم الأحياء Central Dogma of Biology، حيث المكون الرئيسي هو الدنا DNA، التي تحوي الشفرة الجينية للكائن، وهي المسؤولة عن تركيب كل بروتينات الحياة باستخدام ما يعرف بالريبوزوم
النتيجة: كل الفرضيات الباقية تصمد
تجربة 4: وجدنا أن الكائنات الحية يمكن تصنيفها بشكل هرمي بناء على الدنا، فالكائنات ذات الدنا المتشابه تتشابه في صفاتها، وكلما اختلف الدنا بين كائنين كلما اختلفت صفاتهما
النتيجة: كل الفرضيات الباقية تصمد
تجربة 5: وجدنا أن الدنا يحتوي على شفرات مهملة، لا يتم استخدامها في أي شيء، وشيفرات ضارة، وشيفرات وظيفتها تعطيل شيفرات أخرى. مثل مبرمج كتب برنامجاً، ثم قام صاحب العمل بتعديل الطلبات، فقام بتعديل البرنامج، مرة تلو أخرى تلو أخرى، حتى أصبح كود البرنامج معقداً مع أن جزءاً كبيراً منه من غير فائدة.
النتيجة: كل الفرضيات الباقية تصمد
تجربة 6: وجدنا بعض الطيور من نوع واحد على إحدى الجزر وقد اتخذ بعضها نمطاً غنائياً مختلفاً عن البعض الآخر، فتوقفوا عن التزاوج فيما بينهم. بعد بضعة أجيال انفصل النوعان عن بعضهما بشكل كامل حتى أصبحا غير قادرين على التزاوج فيما بينهما
النتيجة: كل الفرضيات الباقية تصمد. نعم حتى رقم 3، ربما يمكننا التفسير أن الأمر بدا كأنه تطور، لكنه في الحقيقة خلق لمخلوقين جديدين مختلفين، حصل عندما لم نكن ننظر.
لحظة.... ماذا يحدث هنا؟ يبدو وكأننا وقعنا في فخ، فكل التجارب التي نقوم بعملها غير قادرة على استئصال الفرضيات الباقية. إذاً، كيف يمكننا الاختيار بينها؟ لحسن الحظ، لدينا أداة ثانية لاستئصال الفرضيات، نصل أوكام Occam's Razor، وهو مبدأ فلسفي يقول: "إذا كان هناك عدة فرضيات قادرة على تفسير ظاهرة ما، فالتفسير الأبسط هو التفسير الأصح". لكن ما المقصود هنا بالأبسط؟ التفسير الأبسط هو التفسير المكون من أصغر عدد من العناصر (المسلمات axioms)، والقادر على تفسير أكبر عدد من الظواهر.
سأضرب لك بعض التشبيهات:
افترض أنك تريد كتابة برنامج يخبرك إن كان عدد ما زوجياً أم فردياً، يمكنني أن أكتب واحداً من برنامجين، أولهما من ألف سطر كالتالي: "إذا سألك المستخدم عن الرقم 1، فأخبره أنه فردي، وإذا سألك عن 2، أخبره أنه زوجي، أما 3، ففردي، وأما 4، فزوجي، وأما 5، ففردي، وأما 6...."، أو يمكنني أن أكتب برنامجاً من سطر واحد: "إذا سألك المستخدم عن رقم، فقسمه على اثنين، فإذا كان الباقي صفراً فالعدد زوجي، وإذا كان الباقي واحداً، فالعدد فردي". أي البرنامجين أفضل برأيك؟
أو افترض أنك تريد شراء مقلاة لقلي البيض والخضراوات، فوجدت حلّين، إحداهما أن تشتري مقلاة خاصة بالبيض، وأخرى خاصة بالخضراوات، أو أن تشتري مقلاة واحدة تقلي البيض والخضراوات وغيرها مما لذ وطاب. أيهما تشتري؟
أو افترض أن هناك حبيبين، أحدهما قال لك أنه يحبك، والآخر أنه لا يحبك، ولكنه سيتصرف تماماً كما لو أنه يحبك. أي الحبيبين تفضل؟
هذا هو نصل أوكام، إذا كان لدينا فرضيتان متساويتان في قدرتهما التفسيرية، فعلينا أن نأخذ الأبسط، لأنها الأقرب إلى الحق. وهنا يمكننا استبعاد الفرضية رقم 3، لأنها أشبه بهذا البرنامج الذي كتبته فوق، فبدلاً من قاعدة واحدة بسيطة تقول إن الدنا تطرؤ عليه تغيرات بسيطة تتراكم على مدى مليارات السنين، ويساعد الانتقاء الطبيعي في اختيار أنسبها، فنرى الكائنات حولنا، تجبرنا الفرضية الأخرى على أن نكتب برنامجنا بملايين الأسطر، لكل كائن سطر. كما أن مثال الحبيب الذي لا يحبك لكنه يتصرف كأنه يحبك ينفع هنا أيضاً، فعلى الرغم من أن كل شيء يبدو وكأن كل الكائنات أتت من جذر واحد، تقول هذه الفرضية إن المخلوقات كلها خلقت على حدى، لكنها تبدو وتتشابه كأنها من أصل واحد.
بالتالي، فإن نصل أوكام جدير بدحض هذه الفرضية. ويبقى لدينا ثلاث فرضيات، ويمكننا استخدام نصل أوكام لدحض الفرضية 4 منها مباشرة، فجسم الإنسان مشابه في كل تفاصيله لكل أجسام الكائنات الأخرى، وما من سبب أو معضلة تدفعنا إلى إضافة هذا التعقيد إلى النظرية، لذا يمكن تجاهل هذا التفسير.
ويبقى لدينا إذاً منافسان أخيران، لن أقرر أيهما الأصح والأفضل، لأني لم أبحث بشكل كافٍ في هذا الموضوع، لذا أترك القرار لك صديقي القارئ لتسخدم الدحض التجريبي ونصل أوكام لتصل إلى النظرية الأفضل. وتذكر، ما من نظرية مثبتة قطعياً، ولكن هناك نظريات أقرب إلى الحقيقة من الأخرى، وهناك نظريات بعيدة كل البعد عن الحقيقة، وعفا عليها الزمن، ولا بد أن نتركها وراءنا إذا أردنا أن نقترب إلى الحقيقة.
Comments
Post a Comment