التجارب المُرّة

كثيراً ما كنت أسمع عن العلاقات التعسفية (abusive relationships). عن أولئك الفتيات أو الشباب الذين ارتبطوا بشركاء يسيؤون لهم، يقللون من احترامهم، يجانبون الإنصاف في معاملتهم، وربما يخونونهم. ويعلمون كل ذلك ويؤلمهم أيّما ألم. لكنهم لسبب ما لا يجدون القدرة على مغادرة العلاقة. يعلمون ما يجب عمله، لكن أطرافهم ترتعد من مجرد الفكرة. وبدلاً من مواجهة جلادهم، يرتؤون له ألف سبب وسبب يبرر معاملته هذه.

كنت أستغرب من أمثال هؤلاء، أهم أغبياء أم ماذا؟ ما يجب عمله واضح ومنطقي، والنتائج المنتظرة تلوح في الأفق، والخسارة المرتقبة لا تتعدى بعض الدمعات. بل هم فعلاً أغبياء.


 

إلى أن جاء يوم دخلتُ فيه الدوامة نفسها. مع شريكة وجدت نقاط ضعفي فأحكمت إمساكها عليها، وأغلقت كل المنافذ والأبواب. وعشت التجربة نفسها التي عاشها هؤلاء الأغبياء. وفعلت كما فعلوا، ووجدت التبرير بعد التبرير، وتحملت الأسى والألم سنيناً طويلة، إلى أن تمكنت في النهاية من الإفلات من هذا القفص.

حينها، لم يكن لدي إلا سؤال واحد... كيف؟ كيف غرقت في هذه الدوامة مع أني علمت كل التفاصيل عن العلاقات التعسفية، وأيقنت أني في واحدة، ومع هذا لم أستطع النفاذ؟

فكرت في هذا كثيراً، ولم أجد تفسيراً منطقياً. إلى أن جاء يوم تنبهت فيه إلى تغيير مهم حدث في شخصيتي بعد هذه العلاقة: التعاطف... فقبل هذه العلاقة لم يكن لدي معنى للتعاطف. كنت أرى ذوي العلامات المتدنية على أنهم ليسوا بذكائي، وذوي الفقر على أنهم ليسوا باجتهادي، وذوي الوزن الزائد على أنهم ليسوا بهِمّتي. لكني الآن حين أراهم، جل ما أراه أنهم ليسوا بحظي. فذو العلامات المتدنية ربما دخل فرعاً لا يناسب اهتماماته، والفقير ربما لم يوفق، والسمين ربما يعاني الأحزان ويواسيها بالطعام.

لكن ما الذي حصل؟ كيف اكتسبت هذه النظرة؟ وكيف تغيرت من عديم إحساس إلى متعاطف مع كل من راح وأتى؟

ما حصل يا سادة، هو أني اكتسبت الذكاء العاطفي. فلكل منا ذكاءان، عاطفي وحسابي، وبينما يُصقَل الذكاء الحسابي بحل المسائل الرياضية والمعضلات المنطقية، فإن الذكاء العاطفي لا يُشحَذ إلا باستخدام العواطف، وما يستخدم العواطفَ مثلُ الألم. لذلك نرى من مروا بطفولة صعبة يحملون ذكاء عاطفياً أرهف من ذوي الطفولة المرَفّهة.

والذكاء العاطفي لا يقتصر على مجالات العلاقات الاجتماعية، بل يشمل شتى مجالات حياتنا. حتى في أعمال يفترض أنها محصورة بالذكاء الحسابي كالبرمجة، تجد دوراً مهماً للذكاء العاطفي. فهناك ما يعرف مثلاً بأنماط التصميم Design Patterns، تعلمتها في الجامعة ألف مرة، وأخبرني أستاذي عن ضرورتها ألف مرة، لكني لم أستوعب دورها وأهميتها حتى تخرجت وعملت على مشروع وجرّبت المعاناة التي جرّها عليّ عدمُ استخدامها، فأخبرتني عواطفي بأهميتها.

إذاً، فالذكاء العاطفي لا ينمو إلا باستخدام العواطف. وهناك أمور لا يمكن فهمها إلا أن تجربها بنفسك. لكن، هل يجب أن يعاني كل منا الأمرّين لينمي هذا الذكاء؟ ليس بالضرورة. التجربة خير معلم، لكن يمكن الاستعاضة عن ذلك باستخدام ما يدرّب العواطف، وأفضل مدرّب للعواطف هو الروايات، تحديداً تلك التي تسوقها الشخصيات character-driven، لا الأحداث event-driven. ففي هذه الروايات تحاكي تجارب الشخصيات، فتعيش معها، وترى كيف بدأت، والصراعات التي دارت داخلها، وكيف تعاملت مع الأحداث، وما خرجت به في النهاية. وتتفاعل عواطفك معها، فتقدِّر مواقفها، وتقلق بشأنها، وتتعلم معها، وتتحرك عاطفتك، وينمو ذكاؤك العاطفي.

ما تعلمته في النهاية أن هناك أموراً قد يعلمها العقل تمام العلم، ويقدر على وصفها تمام الوصف. مع هذا، فحين يجدّ الجدّ، ترى العقل تنحى جانباً، واستولى القلب على الدفة. فإن كان القلب غير مدرَّب، تحطمت السفينة بمن فيها على أقرب شاطئ..

Comments

Popular Posts